Menu
Suche
Weiter Schreiben ist ein Projekt
von WIR MACHEN DAS

> Einfache Sprache
Logo Weiter Schreiben
Menu

في كلّ بيت سوري مسجّلة ..

Lina Atfah
"memory reunion" (2016) von Alaa´Hamameh. Mixed Media auf Leinwand, Originalgröße 97 x 130 cm
„memory reunion“ (2016) Alaa´Hamameh. Mixed Media on canvas, originalsize 97 x 130 cm

السطر الأوّل حين حاولت الكتابة عنك كان: الذاكرة هي الله في زمن الموت والسلطة.
أكثر ما أتذكره منك اليوم يا سمر هو صوتك (( بي بي بي بي ب ب ب … )). ملامحك مشوشة، لكن أتذكر أنك كنت نحيلة جداً، شعرك أسود وعينيك أكثر سواداً، صورك أيضا مشوشة، لا شيء واضح فيها إلا روحك المنقوعة بالألم.
سمر.. عمّتي.. أصيبت بالتهاب سحايا حين كانت في الثانية من العمر، كانت نتيجته تخلّفاً عقليّاً حاداً وخللاً مزمناً في القدرة على التواصل والنطق وكل شيء، مع ذلك لم يستطع المرض أن يطمس جذر شخصيتها وهو الخبث وخفة الظل.
سمر تحب استفزاز الآخرين، لفت أنظارهم، تحب أن تلعب ألعابا شيطانية خطرة .. تصعد إلى سطح البيت، تجلس على الحافة و تدلّي ساقيها إلى الأسفل مطلقة صرخات استغاثة و استنجاد و بكاءاً مفجعاً مدعيّة أنها على وشك السقوط.
كان أهل الحارة والعابرون في الشارع يتجمعون عند البيت تحت قدمي سمر مأخوذين برعبهم عليها، مصدقين أنها على وشك السقوط وأيديهم ممدودة لتمسكها عند سقوطها، صارخين بملء قلقهم : (( لا تخافي يا عمو، سنمسكك، تمسكي جيداً .. )).
تسعد سمر بقلقهم، وكلّما ازداد صراخهم وامتدّت أيديهم أكثر صوبها، ترتفع صرخاتها واستغاثاتها وتخبطات ساقيها وتلتمع عيناها بمزيد من المكر والضحك. ولا يوقفها عن عبثها إلا عودة خالها من عمله ليجد الناس متجمهرين تحت البيت بأيد ممدودة، وسمر جالسة جلستها الملعونة ومسترسلة في نداءاتها المذعورة.
ما إن يطل الخال ويرى المنظر حتى تبتلع وجهه ابتسامة، ويوقن أن سمر تلعب وتتخابث وتتسلى بأعصاب الناس، ومن أول الحارة على بعد عشرين مترا من البيت يصرخ الخال فيها: (( انزلي.. انزلي ولك ملعونة، والله لشيل عيونك يا كلبة..)) تسمعه سمر فتنتصب واقفة وتغرق في نوبة ضحك صاخبة وتنسحب مسرعة لتختبئ في حضن أمها.
يقترب الخال ويعتذر من الناس الذين تجمهروا لأكثر من ساعة و نصف، ويدخل البيت محاولا كبت ضحكته ويخاطب سمر: (( ولك ملعونة لا تعاودي خبثناتك اللعينة، هذه المرة سأتركك، لكن في المرة القادمة سأشمط لك أذنيك)). تستمتع سمر بالتوبيخ وكأن أحدا يدغدغها، وتعاود كرّة الصعود إلى السطح مرّات ومرّات، ولا تنزل إلا حين يصرخ بها خالها.
الخال، كان منخرطا في العمل السياسي السري ومنتميا إلى أحد الأحزاب المناوئة للنظام ومهدّدا بالاعتقال، وعندما أحس بحتمية خطر اعتقاله اشتعلت مخاوفه وتأججت هواجسه، وكانت سمر ومغامرتها المجنونة على حافة السطح أحدها، كان يدرك أن لا شيء يردعها سوى صوته، خاف عليها وقلق على أمها من الاضطراب الذي ستتسبب به أثناء غيابه، وكان حلّه، أن يشتري آلة تسجيل، ويسجّل صوته وهو يوبخها لتنزل عن السطح.
بعد أسبوعين اعتقل الخال وكانت تلك مصيبة على البيت والعائلة، لكن سمر تابعت شيطناتها غير مدركة لما حصل وصعدت إلى الحافة فأسرعت أمها وضغطت زر المسجلة ودوى الصوت : (( انزلي ولك ملعونة، والله لشيل عيونك، انزلي! انزلي يا سمر .. انزلي ولك!)) تنفجر سمر بالضحك وتنزل مسرعة لتختبئ في حضن أمها.
استمرت سمر بالامتثال للصوت الخارج من آلة التسجيل لأكثر من سنة دون أن تعرف سبب غياب الخال وحضور صوته، استمرت شيطنات سمر على السطح وفي كل أنحاء البيت، وآخر ما استفزّ فضولها كان القبو الذي نسيت أمها إقفاله، فدخلت تتفقّده ورأت آلة التسجيل وبدأت تعبث بها وتكبس الأزرار وفي غمرة اللّعب ضغطت زر التشغيل ليرتفع صوت الخال : (( انزلي ولك ملعونة…)) اصفرّت سمر وارتجفت احتضنت آلة التسجيل وغابت في بكاء مرير مكتوم ولم تصعد بعدها إلى السطح أبداً.

بعد مرور اثني عشر عاماً خرج الخال من المعتقل.
بعد اثني عشر عاماً ازداد وضع سمر سوءاً ليرافق تخلّفها العقلي تخلّف جسدي مزمن أيضا، أصبحت معه عاجزة عن الحركة تماما.
وصل الخال من سجن المزة إلى سلميّة متعباً، نحيلاً، بنظارات سميكة وروح منهكة. دخل البيت وسط ضجيج الفرح بعودته، كنت يومها في الرابعة من عمري، أذكر جيداً كيف عانقه أبي وقال: سلّموا على جدكم يا صبايا. عانقناه أنا وأختي، حيّا الجميع والتفت باحثا عن سمر صرخ لها : يا سمر ! يا سمورة !.. دخل إلى غرفتها ودخلنا وراءه، سمر المشلولة كانت ترتجف وتبكي وعيناها تبحثان عن الصوت وما إن رأته حتى علا صوت بكائها الذي حُفر في ذاكرتي مذ كنت في الرابعة، نحيبها المر وشفتاها اللتان لم تقولا شيئا يعبّر عن فرحها وحزنها .. لم تخرجا صوتا سوى النحيب و (( بي بي بي ب ب ب ….)).

[ قرأت ما كتبت للخال العجوز وسألته عن رأيه تبسم وقال : رحمة الله عليك يا سمر. لم يبق لنا نحن السوريين أمام ما يحدث اليوم ونحن مازلنا في ذات النفق منذ ثمانينات القرن الماضي ونعاني ما نعانيه من الألم، لم يبق لنا إلا أن نصرخ للرأي العام العالمي (( بي بي بي ب ب ب ….)) ] .

لينة عطفة

Lina Atfah Nino Haratischwili

Lina Atfah & Nino Haratischwili

Lina Atfah und Nino Haratischwili schreiben beide ohne Angst. Sie scheuen weder große erzählerische Bögen über Generationen hinweg noch Themen, die sie in Gefahr bringen.

Datenschutzerklärung

WordPress Cookie Hinweis von Real Cookie Banner