لكِ يا "مكتباتُ" في القلوب منازل
شرّقتُ، غرّبتُ، وبقيت المكتبات المنزل الوحيد الذي لم يتخلّ عني لقسوةِ الحياة، في كل مكانٍ كانت هناك مكتبة ما، أسندُ إليها حياتي المتداعية. ذهبتُ لأولِ مرة في حياتي، قبل سبعة عشر عاماً، رفقةِ أستاذي في المدرسة الثانوية، لزيارة مكتبة المركز الثقافي في حي العزيزية في حلب، كان ثمة دهشة وسعادة خجولتين ترافقاني كما لو كنتُ ذاهبة لموعدٍ غرامي.
بتلك الدهشة التي بقيت طازجة حتى اليوم، ولم يغيرها الزمن، رافقتُ شريكتي الكاتبة الألمانية „آنيت كروشنير“ لزيارة المكتبة الوطنية في برلين. كان كل شيء كما عشتهُ في الماضي، حيث تتلاشى الاختلافات بين اللغات، وتغدو كل لغة غريبة وطناً جميلاً لقرّاء غرباء، تختفي الحدود على الخرائط، ولا يبقى إلا أثر خطوات من عاشوا على هامش الحياة والأشياء رفقة كتبهم المفضلة، وحوّلوا عزلتهم لغاباتٍ وينابيع شعر داخل تلك المكتبات التي عمّرت لسنوات طويلة، وتحدّت الحروب والقسوة والطغاة، الهجرات والمنافي، وخرجت من كلّ تلك الخسارات بإرث ثقيل، لكنه ضروري لتستمر الحياة على قدمين من الوعي والمعرفة. نجت المكتبات وتناثر قرّاءها في المنافي رفقة ذكرياتهم فيها، وفي كل مدينة غريبة يمرّون بها وبمكتباتها، تسقط عبارة حفظوها ذات يوم عن ظهر قلب، ليكملوا دونها.
„أنا الذي تخيّلتُ الجنة يوماً.. كأنها مكتبة“ عبارة بورخيس تدخلُ معي إلى المكتبة الوطنية في برلين، ويقودني صوت آنيت إلى تاريخ المكان، لنبات اللبلاب وهو يتسلق الجدار، لغبار الحرب التي ما تزال طازجة في صفحات الكتب في صالة القراءة الجديدة.
وكأن هناك قطعة ناقصة من سماء المكان، أقول، فتردّ آنيت أنه كان للمكتبة قبة زجاجية ساحرة دمّرها القصف أثناء الحرب العالمية الثانية كما دمّر الكثير من أجزاء المكتبة. لم يكن ذلك غريباً على مسمعي، أنا التي تابعت أخبار القصف في حلب، وكيف تعرضت المكتبة المركزية فيها للقذائف، وكيف حاول الموظفون حماية الكتب من خلال إغلاق كافة النوافذ في مخزن الكتب بالصفائح المعدنية في ذلك المكان الذي كان نقطة اشتباك بين المعارضة والنظام، ينال حصته من شتائم الجنود من كلا المعسكرين، بينما يصغي ليأسهم، وضحكاتهم، وحنينهم لدفء عائلاتهم. مكانٌ يتبادل من خلاله الطرفان الرصاص والقذائف والكراهية غير مكترثين بحيوات عشرات الآلاف من الكتب داخل تلك الجدران، المكان الذي خسر معظم قرّاءه بسبب الهجرات التي لم تتوقف.
كان يخيّل إلي حين كنتُ أشاهد صور المكتبة في حلب وهي تقف بجسارة وسط المعارك، أنها كانت تصغي لصوت المغنية اليونانية سيرانوش التي بنيت المكتبة على أنقاض منزلها قبل مئة عام. لم تغادر سيرانوش أنقاض منزلها أبداً، بقي صوتها الحزين يصدح في المكتبة يعزّي الكتب بمآلات مصير قراءها وهجرتهم للمنافي البعيدة.
في الممشى المؤدي للمكتبة في شارع Unter den Linden في برلين، كان الثلج يتساقط ناعماً على معطفي الأحمر في عتمة ليل فبراير. ولوهلة خُيّل لي أن حبات الثّلج هي ندف أوراق الكتب التي اختفت من المكتبة أثناء الحرب العالمية الثانية وهاهي تعود لمسقط رأسها، أليست الكتب كالبشر تتعب أحياناً من المنافي؟ تتساقط الكتب من السماء قادمة من سفرٍ طويل بدأ عام ١٩١٤ أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث وُزّعت الكتب على أكثر من 30 موقعاً، في المناجم والكنائس والقلاع، عاد قسم منها، وقسم توّزع في العديد من البلدان الأوروبية، تمكّنت من العبور وقطع الحدود دون أن تحمل جوازات سفر.
أنظر للسماء، وأرى الكتب تعود تعبةً من الهجرات. تتساقط الكتب فوق رأسي ندفاً من الثلج الأبيض، خفيفة من الإرث الثقيل للمنفى والحرب.
نتجول أنا وأنيت في المكتبة، تحدثني عن سنوات دراستها فيها، وعبورها للممشى القديم كل يوم، فتعود بي إلى الممشى الضيق في المكتبة في حلب، هناك لا يزالُ ظلي وظل أستاذي واقفين أمام واجهة الكتب، أسألهُ عن الكتب التي في الزاوية، فيخبرني أنها كتب رائعة في علم النفس، نصعد لصالة القراءة في الطابق الأعلى، الدرج اللولبي الضيق الذي لا يتسع لمرور شخصين معاً، يمرُ أستاذي وأصعد خلفهُ، أسمع أنفاسهُ وأنفاس آلاف القراء الذين كانوا هناك يوماً، تصعد أنيت للشرفة المطلة على صالة القراءة، نتأمل المكان ونغرق في الصمت، نترك للمكتبة أن تقود مصائرنا إلى الذكرى، والشوق مصيرنا المشترك في هذه الحياة.
لسنوات بعيدة، كان الصمت هو من يتجوّل في هذه المكتبة، كانت قبابها وسقوفها ونوافذها والأبواب خراباً بفعل القصف، فقط موسيقى باخ وموزارت وبيتهوفن كانت تعزّي فراغ المكان الذي كان يحفظ الكثير من المخطوطات الأصليّة لتلك المعزوفات، موسيقى تملأ الفراغ كما كان يفعل صوت سيرانوش أثناء الحرب في دار الكتب الوطنية بحلب.
وفق الإحصائيات الرسمية فقدت المكتبة في برلين حوالي 800 ألف كتاب، يبدو هذا الفقدان مصيراً يواجه كل المكتبات حول العالم، ففي عام ١٤٠٠م هاجم تيمورلنك حلب، وحينها فقدت حلب مكتباتها الكبيرة بمخطوطاتها الثمينة والنادرة، اليوم فقدت حلب مجدداً عدداً من مكتباتها وكتبها ومخطوطاتها أثناء الحرب. ورغم ذلك، في كل فترة يعود كتاب ما إلى مسقط رأسه الأول، كما فعل منذ سنوات كتاب الأطلس حين عاد بخفيّن من الحنين للمكتبة في برلين.
أضعُ يدي بحنانٍ على الكتب التي في المكتبة، كما لو كنتُ في مكتباتِ حلب، أضعُ قبلة صغيرة على غلاف كتاب قديمٍ جداً، الكتب تنقلُ رسائل الاشتياق متحدية المسافات والزمن. أؤمن أن قبلتي ستصلُ لكتاب في المكتبة في حلب.
أتخيلُ حواراً مع ابنة متخيلة: أمي ما المكان الذي شعرتِ فيه بالأمان حين كانت الهجرةُ تبتلعُ بلدكِ وحياتكِ؟
أقول لها بحنانٍ: المكتبات. فلها في القلوب منازلٌ كما قال الشاعر قبل مئات السنوات.
وداد نبي
برلين ٢٠١٩
كتب هذا النص في إطار حوار مع أنيت غروشنر وردّا على نصّها الذي يتناول المكتبات في حياتها. يمكنكم قراءة النص هنا