أبناء الطين... أمهات الأشجار
كان لنا بيوتٌ بسقوفٍ منخفضة، ومع ذلك كان في كلّ بيتٍ عليّة للأشياء التي لا تلزم الأمهات اللاتي لا يرمين شيئًا
اختبأت مرةً في عليّةِ بيتنا الأول أثناء لعب الغمّيضة، ونُسيت هناك دون أن ينتبه أحد
تصالحت بعد ذلك مع نفسي المهمشة.
خبأت فضائحي في عليّة متجرٍ ونسيتها هناك، وأصبحت مدخراتي من الذاكرة المخبّأة.
عرفت عليّاتٍ كثيرة، اغتُصب فيها أطفال، أُخفيت فيها دفاتر الضرائب والبضاعة الفاسدة، والنادرة بطبيعة الحال.
عليّاتٌ للجنس، وأخرى لعمالٍ كان يحبّون الصلاة في الخفاء، ويكلّمون منها حبيباتهم، ويُضربون فيها.
عليّاتٌ آمنة للاختباء من صراعات الأهل.
عليّاتٌ في بيوت منخفضة السقوف للوحدة.
أعيش في بيتٍ مرتفع السقف ولا أعرف ماذا أفعل بكل الفراغ، لا أعرف أين أخفي خوفي الذي لا أحتاج، وكأميَّ لا أستطيع رميه للخارج.
*****
البيوت هنا كالتي كنا نرسمها عندما كنا صغاراً في بلادنا؛ سقفٌ منحدر، شبابيك كبيرة وستارات شفافة. لا يعلق عليها ثلج، لا يحتقن فيها هواء وتضحك للشمس.
تربينا تحت أسقف مستوية واطئة، بشبابيك موصدةٍ بالحديد ومخمّرة بطبقات الستائر. لم نكن نريد بيوتًا تتعفن فيها القصص القديمة وتعيد تدوير الهواء الفاسد، كنّا نرسم البيوت التي نرغب لئلّا نحمل كل هذا التاريخ على رؤوسنا، رؤوسنا التي كانت أمهاتنا يشعرنَ بها.
وإلا فلماذا كلما كنتُ أميل رأسي قليلًا خارج النافذة تصرخ أمي:
ستقع.. رأسك أثقل منك.
****
لأننا من تراب
نحن أمهات الأشجار
لا فرق
أنتِ أم شجرة العنب
لا فرق
أنا أم شجرة الزيتون
لا فرق.
****
لم أعرف قبلًا معنى أن يسكن الرجلُ في بيتٍ بأرضياتٍ مصنوعةٍ من الخشب، كلما حاولت أن أخلع حذائي وأخطو حافيًا؛ سقطت.
نحن أبناء الطين، كنا نربي شجراً لحبيباتنا عوضاً عن الفراشات والعصافير.
أرضٌ من خشب.. سقفٌ من خشب. سأقول لحبيبتي أنّ الشجرة تربيني لها بداخلها وستضحك متخيلةً أنني أعيش في بطن تشيللو.
نحنُ أبناء التراب، على الشجر أن يخرج من أحشائنا!
نحن أبناء الإسفلت الذي يدفننا الآن تحت أنقاضه كل يومٍ يا حبيبتي.