يد ملونة
قلبي الذي يعرف الحب يعرف كيف يقع أيضاً حين يرى عقداً من الخرز الأزرق بقي معلقاً لسنوات في صدر الحائط الحجري لمنزل أبي.
لا البلاد الجديدة استطاعت التقاطي ولم أعد اريد التقاط بلادي، هكذا كنت أظن.
لا يمكن قياس الأشياء كأبعاد.
وصلني منذ أسبوع طرد صغير من أبي، الكيس البلاستيكي الملفوف بعناية وملصق من جميع جوانبه كان كفيلاً بنقلي زمنياً إلى هناك، حيث يدي أبي الملطختين ببياض مرض البهاق الذي اعتبرته دائماً علامة مميزة. يدي أبي ملونة لا تشبه أيدي باقي الآباء، رأيتها تلصق الكيس الأخير وتقلبه بهدوء للتأكد. للحظة اصابني رعب من أنه يجب أن أمزق هذا الكيس الذي ألصقه أبي بأصابع حقيقية.
ولكن الاندفاع كان أقوى، كيس بداخل كيس والمفاجآت تتوالى، مفاجآت تجعلك مشحون بالتفاصيل لدرجة اللهاث وكأنك تركض بين جدران جسدك.
الكيس الثاني جعلني أضحك كطفل وجد كرة بلورية لا تشبه أي من الكرات التي يملكها رفاقه.
التفتت إلي صديقي وقلت له صار عندي كيس من عند ‘‘مغمومة ‘‘، الاستغراب الذي كنت انتظره وجدته في وجهه واعطاني حجة لرسم خريطة مدينتي شفهياً أمامه
– مغمومة هو أشهر مصور في حماة، الاستديو خلف مركز البريد الموجود بساحة العاصي.
ابتسامة صديقي الذي لا يهمه مركز مغمومة للتصوير ولا ساحة العاصي بقيت تنتظر مفاجآت بطن الكيس.
افتحه وأنا أشم رائحة أعرفها جيداً. الرائحة التي افتقدتها رغم أنها لم تكن تعنيني مثلها مثل آلاف الروائح والاشياء حينها.
رائحة بامية يابسة. يا إله المجرات، كيس بامية صغير بحوزتي، شممت حفنة كمن يشم رائحة فقيد، أو حبيب، أمضيت سنة وأنا أنتظرها في بيتي، هل هذا بيتي؟
كيف يكون بيتي وليس فيه بامية تحمل رائحة 32 سنة من عمري؟
فتحت الكيس وطمرت وجهي بحباته القاسية وأعلنت سريعاً:
يوم الجمعة سنتغدى هذه الثروة وكأنني أعلن عن بداية الخلاص.
ثم روايتين، إحداهن رواية من مكتبتي التي تركتها ورائي، بالصفحة الأولى وجدت اسمي وتاريخ شرائي لها ، كنت أخاف أن تضيع بين الاصدقاء دون أن يُعرف صاحبها.
ربما كان يجب أن أكتب
رشا حبال
2010
سوريا
لم يخطر ببالي حينها أن سوريا مرحلة وأنه سيكون لدي كتب بملاحظة صغيرة :
رشا حبال
2016
ألمانيا
أما الرواية الثانية فمن مكتبته وتحمل إهداءَ منه :
‘‘لديكِ القليل مني
ولديَّ الكثير منك
موسيقا الطفولة الصاخبة
وعرق الأيام
لدينا الآن ما نمسك به جيداً
ملح التفاصيل الهاربة.. ‘‘
هو وحده من علمني كيف تصبح اللغة مفتاحاً، لكن الأهم من اللغة الآن هو خط يده … رفعت رأسي غير مصدقة كيف لخط أبي أن يعيد لي بلحظة كل الجلاءات المدرسية
‘‘نشكر لكم جهودكم. ‘‘جملته التي لم يغيرها أبداً، وتحتها توقيعه.
اليوم فقط اكتشفت أنني اوقع بطريقة تشبه توقيع أبي وأن خطي يشبه خطه وأنني بكل خطوة اضع قدمي قرب قدمه .
كيس أخر صغير وملون.
لم أسمع نفسي تشهق بتلك السعادة منذ زمن بعيد، عقد من الخرز الازرق وبه بعض حبات ملونة وهلال وكف فضيان يحمي من العين
أبي لا يؤمن بالعين الحاسدة لكنه يؤمن بالألوان التي تعصف بلون الحجر الساكت على الدوام، أبي لا يؤمن بالعين لكنه أرسل لي جداراً كاملا من بيتنا في كيس صغير.
ثم عقد صغير لصدري وقرطين، صنعهم بيديه لابنته التي تحب يديه، كنت أعرف تلك الحبات التي صنع منها العقد والأقراط لقد كانت مسبحة اهداها له أحد رفاق العمل السياسي حين أمضى حصته من السجن بين جدران البلاد.
كيف تمر حياتك كاملة في ربع ساعة فقط؟ وكيف يعيد الزمن تدوير ذاته وبمشاعر صاخبة في كل مرة؟
تمر حياتك وتستمر في اقناع نفسك بأنك حر من تلك الأيدي التي تمسكك من هناك.
فنجان قهوتي حاضر بيننا
بعد ثلاث إشارات
طريق
على اليمين حاجز
على اليسار حاجز
وما بين اليسار واليمين
هناك من شرب أبي
………………………….
ربما كانت بندقية
أو بندقية
حتما بندقية
بوجهه أو بظهره
………………………..
تعرق ؟؟
ولكن على الأكيد كفر بسره
وأخرج منديل الجيب القماشي
مسح وجهه
وشتم رب البلد
……………………..
أريد أن أكتب نصاَ خالياَ من اي حرف فشرايين القلب ضيقة ولن تستطيع قوافل الأيام أن تمر دفعة واحدة.
اليوم هو 17/6
في مثل هذا اليوم وقفت لأخر مرة على أخر سنتيمترات سورية وكنت أدرك تماما أنه يجب أن أمضي لكن الأشياء التي كانت تمسك قدمي بقوة هي الأشياء التي لا يمكن أن يكون لها أبعاد، أبعاد تستطيع أن تسمع صوتها بوضوح وهي تقول لك لا تذهب.
لكنك جبان لهذا تقول للهرب أنت الطريق وتتوه في الضباب دون أن تستدير لظلك الذي يحرن مثل حمار متهور ولذلك تجدنا الأن نربي ظلالنا بقسوة حتى لا ترمينا عن صهوتها مرة أخرى.
كل من حولي موتى وأظنني كذلك ….
انا التي لا تجيد الوصول للأبعاد
مثلاً
مازال صوت أبي يتردد في رأسي المغمور بالماء منذ عشرين سنة
*بابا رشا باقي مترين مدي يدك لتصلي
لكنني كنت أنهار تماما قبل أن أصل بمترين وملامح الخيبة في وجه أبي تشد قدمي للأسفل
هذا الصوت ما زال يلاحق خوفي من أخر مترين
هذين المترين يكادا أن يكونا مساحة قبر وشاهدة