شيرين، سأكون تبّاً
عن الأمهات والبنات
ربطت أمي رأسي بخيط وشدّته مرة واحدة، فانفصل رأسي سريعاً، ولم يسل الكثير من الدم.
رفعت أمي يدها التي لا تزال تمسك بطرف الخيط في الهواء وعاينت رأسي الذي كان يومها يلمع بشكل استثنائي. طالعت بهدوء نقط الدم الخمسة على الأرض والنقطتين على مريلتها الصفراء، قالت „كما عماتك، لا دم لديك، والموجود لونه أزرق، انظري“
ورأيتُ نقط الدّم سوداء.
أه…
هل قلت رأسي؟
قصدت أن أقول ضرسي!
ربطت أمي الضّرس بخيطٍ وشدّته مرة واحدة، فانفصل الضّرس سريعاً، ولم يسل الكثير من الدم.
ولم عليّ أن أكون كما عماتي؟
هكذا تقرر الأمهات أن يكرهن بناتهن منذ البداية.
عن الأسماء
لم يكن أمام شيرين خيار سوى العودة إلى دمشق. تقول نصيحة الحرب أن الحافلات أكثر أمانًا من سيارة تقودها امرأة، فحجزت مقعدًا في حافلة. نزلت من التاكسي فنادى السائق على أحد العتالين أن يأخذ حقيبة „المدام“ يوصلها للحافلة، قالها بتفخيم „المدام“
كانت شيرين قد اختارت من ثيابها قطعاً بسيطة: بنطال جينز بسيط ممزق عند ركبتيه وعند الفخذ الأيمن-كما هي الموضة في بيروت-، مع جاكيت رسمية زرقاء قماشها من المخمل اللامع، وشال بلون فضي كبير جداً كبطانية صغيرة، من الكشمير. وبالتأكيد لعب شعرها الأشقر دوراً مهماً لتكون „المدام“.
العتّال
راحت ذراعه اليسرى تتأرجح إلى جانبه ميتة، ويبدو أنها لم تمت منذ زمن طويل، إذ كان جسده يتصرف وكأن الذراع لا تزال حيّة!
وهكذا راح الحمّال يتعثر بذراعه اليسرى قبل أن يضعها بيده اليمنى في جيبه، ثم وبذراعه اليمنى سحب حقيبة شيرين الكبيرة، وألقى بها بثقل في صندوق خشبي مفتوح مستطيل، يشبه نعش طفل، يسير على أربع عجلات صغيرة مجعّدة. ربط الحمال النعش بحبل علّقه بكتفه، فإذا تحرك الحمال تبعه النعش.
مشى الحمّال بذراع واحدة على قيد الحياة وبخطوة ونصف لأن خطوته اليمنى كانت ناقصة بسبب إصابة واضحة في وركه الأيمن.
لكن شيرين لم تلاحظ كل ذلك، فقد كانت تائهة بأفكارها.
في رأسها انزاحت بعيدًا عن الحرب، عن الحمّال، عن البناء المُهدم عن يمين المحطة بقذيفة سقطت ليلة أمس ولم تعرف شيرين „المدام“ أن القذيقة انطلقت سهواً من قطعة عسكرية بالقرب من الكراجات وأصابت خطأ البناء. تسير „المدام“ بعيداً عن سيارة الأجرة التي أنزلتها، عن الحافلات التي أمامها، وكل الرجال والنساء الذين كانوا يحدقون بها في شك وعدم ثقة، ليس فقط لشعرها الأشقر أو لملابسها، بل لأن روح الخوف لا تتملكها، روح الخوف التي تميّز أهل الحرب.
الانتظار
„الانتظار“ فكرت شيرين „بعضه عكس ما قاله بيكيت؛ الانتظار ليس فارغا ً أو بليداُ بل مليئا بالحماقات.
كأن تشعل باليوم الواحد السيجارة الثالثة والسبعين ورئتاك توقفتا عند السيجارة الحادية والستين.
وحيداً تراقب الوقت الذي يتمعن فيك بمحجرين فارغين.
حماقة أن تتسلى بالوقت. فتفتعل حدثًا، ربما محاولة انتحار، فتطلب الإسعاف وتقضي ليلة في المشفى. أو تفتعل حباً. أو أن تفتعل أصدقاء.
حماقة أكبر أن تحاول قتل الوقت.
قتل الوقت شي أحمق!
بل اقتل الإنتظار. إن كان الانتظار داخل أمل كاذب ابصق الأمل كاملا (تفففففف) وامسحه بكعب حذائك في التراب.
لو الانتظار في مكان ما في القلب أغلق مكانه وامض (فقليل من القلب يكفي).
إن عشّش الانتظار في رأسك. اقطع رأسك. عش جسداُ من دون رأس؛ كأن ترقص مثلاُ!
تستطيع أيضاً أن تمارس جنساً عنيفاً وأجوف.
أو تقرر موتاً محكم الأبازيم لشخص له ملامح انتظارك أو لون شعره أو شكل أصابعه، أو لون عينيه أو برجه.
أوأن تصمم سلسلةً من جرائم القتل.“
قالت شيرين لنفسها، وهي تسترخي في مقعدها الدافئ، تشعر برضى مفاجئ وهي تضع وشاحها مثل بطانية على ركبتيها، بينما تتحرك الحافلة بهدوء وتؤدة مثل فيل ضخم نحو بوابات محطة الحافلات الرئيسية متجهة إلى دمشق.
لا يزال أمامها ست ساعات حرب على الوصول!
كيف تقابلين حبيبة حبيبك السابق؟
„… وأركض إلى المرآة حيث تقف، أقف إلى جانبها –إن كنت تعرفين خرائط المرايا- أي أني أواجهها، عيني في عينيها
„مرحبا“ أقول لها فتدير وجهها، ترفرف برموشها الاصطناعية „أهلاً“ تقول بارتباك!
سوزان – لم تميّزك؟
شيرين – لا تميّزني. أتمعن بالتي نويتُ أن أكون نسخة أجمل منها وأقول لها „سأكون في المقابلة التلفزيونية معك“ فتحملق بتمعن بتصفيفة شعري ولونه والمكياج… „إننا نسخة عن بعضنا“ قلت لها أدّعي المفاجأة
„أجل“ ردّت مرتبكة بابتسامة جامدة.
„بقي لنا أن أضع الرموش الاصطناعية “ أصرخ لمسؤولة المكياج التي تعمل معي فركضت وجلبت الرموش واللاصق وتكاد القهقهة أن تهرب مني ومنها.
سوزان – مسؤولة الماكياج التي طلبتها؟
شيرين – أجل، رشوتها ببضعة هواتف، والملعونة تحب هذه المقالب حتى لو كانت بالمجان.
سوزان – وهي؟
شيرين – اعترضت للمسؤولة عن مكياجها لكن اعتراضها كان بصوت خافت وخائف ولا وقت لتصليح شيء الآن!
سوزان – ومساعدي المخرج؟
شيرين – أحدهما صديقي والآخر من المعجبين، ولا يوجد وقت حتى نظهر على الهواء ولم يعد أمام المسكينة سوى الاستسلام.
سوزان – وهو؟
شيرين – شاعرنا الكبير!! هرب مني كأني شبح، شبح ماضٍ يخيف حاضره. أو هذا ما أرغب أن أتقنه: أن أكون شبح الماضي الذي يخيف الحاضر.
حبيبته اليوم تقف وحيدة تحاول لملمة خوفها في جوفها، وقبل الظهور على الهواء بلحظة أقترب منها، وأقول لها كصديقة قديمة „لن تكوني المرأة الأجمل اليوم“
„من أنتِ!“ تقول لي
ابن العاهرة لم يخبرها عني، فصعد الدم إلى رأسي، لا بد أني جُننت لأن رائحة خوفها فاحت، فانتشيت، فعدت لوعيي، فحملقت فيها.
„أنت مخيفة“ قالت لي، فصرتُ سعيدة!
„شكراً“ قلت لها „ولا شيء شخصي بيننا“ تابعتُ „سوى أني سأكون تباً!“