النُزوح الأوّل
خمسة أمتار لا أكثر؛ المسافة التي قطعتُها خلال ثانيتين فقط في أول نزوحٍ عرفته في حياتي. لحظةَ اشتداد القصف في ريف دمشق. خمسة أمتار فقط، تبدأ من أريكةٍ سوداء في غرفة المعيشة، وتنتهي في الحمّام، قرب حوض المرحاض عاجيّ اللون. حيث حَمَلْتُ طفلي وتوارينا في قلب ذلك المكان الضيق الذي طالما أَلِفَ بكاءه وصراخه كلما انسكَبَتْ على وجهه مياه دافئة ممزوجة برغوة صابون.
– يولد النزوح ويعيش لِحينٍ داخلَ البيت، وقد لا يخرج منه أبداً.
في النُكاتِ الشعبيةِ، عندما يعودُ الزوجُ المخدوعُ إلى بيته على حين غرّة، يستلقي الخوّانُ برشاقةٍ باهرة تحتَ سريرِ الزوج، أو في درفةِ الخزانةِ، بين ثيابه. وفي لعبةِ الاختباءِ يتوارى الأطفالُ في الزاويةَ المستورةَ ببابِ غرفةٍ مفتوحٍ أو تحت طاولة الطعام إن وجدت. وفي بادئ الحرب يلجأ الآباء والأمهات بأطفالهم وبأنفسهم إلى الحمّامات.
كلما ضاق المكان ازدادت الأمومة حضوراً واتساعاً. كلما اقتربَتْ الجدرانُ من بعضِها، وكلما انخفضَ السقفُ، تعاظَمَتْ فرصة النجاة بالانكماش، أو هكذا تُضطر لأن تظنّ.
– لو سألتَ الاختباءَ: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ لأجابَ: اختفاءً.
في مساءِ ذلك الخوف، سمعتُ طَرْقاً خفيفاً على باب بيتي.
– هذه أمي، صرخ ابني
لكن ليس من عادة زوجتي نسيان مفاتيح المنزل. عاد الطرْقُ الخفيفُ مرة أخرى، طرقٌ لا يتناسب مع خلفية الأصوات الوافدة من فوهات الموت في الخارج. كانت نقرات خجولة جداً ومهذبة، لكنها مسموعةٌ أكثر مما ينبغي، وتبدو غير آبهةٍ بما يجري. مثل أغنيةٍ منبعثةٍ من مذياعِ سيارةٍ انحرفَتْ عن طريقها، وبدأتْ تسقطُ للتو ثم تنقلبُ وترتطم فوق صخور أحد الأودية العميقة، دون أن يؤثّر ذلك على أداء المغنّي أو يسبّبَ نشازاً في صوت الكمنجات وغيرها من الآلات الموسيقية.
ترددتُ في البداية، ثم انطلقتُ مسرعاً وفتحتُ الباب، فوجدتُ حاوية القمامة الضخمة:
– كيف وصَلَتْ إلى هنا؟ من رَفَعَها على سلَّمِ البناء؟
الحاوية المهذّبة المتروسة بالقمامة والروائح الكريهة، لم تمهلني الكثير من الوقت، دخلَتْ لوحدها إلى صالون البيت، حاملةً في رحمها رجلاً متسكعاً فقيراً يبحث عن بقايا طعام فيها. كان الرجل يبحث بين أكياس القمامة غاضباً شاتماً الحاوية لأنها لم تعد قادرةً على تأمين ما يكفي من الطعام كما كانت فيما مضى. حاولتُ إعادتها من حيث جاءت، لكن دون جدوى، فوجّهتُها إلى المطبخ، ولم يقبل الرجل المتسكع التخلّي عن مكانه فيها، فعدتُ وحدي إلى الحمّام مشغولاً بتخيّل ردّة فعل زوجتي عندما تعود… في تلك الأثناء لم يتوقف ابني عن مناداتي أثناء استقبالي للضيوف.
– صوتُ الخائفِ يدٌ.
طَرقٌ طَريّ آخر، فتحتُ الباب فلم أرَ أحداً، كان الطارقُ شارعاً طويلاً مقفراً، زائراً صامتاً لا يملك أي عذرٍ يرميه عليّ قبل الخطوة الأولى في تجاوزِ العتبة. ساعدتُه في الدخولِ إلى منزلي، وحرصتُ ألا تتعثر أرصفته بالأريكة المفضلة عندي، وألا تنقلب أي سيارة مركونة على جانبيه فوق نبتة „ورد النيل“ كانت قد زرعتها زوجتي. وألا تميل أو تسقط لافتات المتاجر والعيادات والمكاتب على الطاولة الزجاجية الصغيرة.
بعدها دخل طابور من الناس الغرباء، لا أدري إن وجدَ هؤلاء البابَ مفتوحاً أو قاموا بفتحه بطريقة ما. المهم أنهم اقتحموا المكان دون استئذانٍ، توزّعوا في غرفة النوم وغرفة المعيشة والمطبخ. تربّع كبارهم فوق حقائبهم، واستراح الصغار فوق أمهاتهم. لكنهم لم يستمروا على ذات الحال لوقت طويل، فالغيوم التي تسللتْ فجأة واستقرت تحت سقف بيتي مباشرة، أَنفَقَتْ عليهم كل مدّخراتها من الأمطار والثلوج والبَرَد، فاندفعوا على عجالة لنصْبِ خيامهم بشكل عشوائي.
– أحياناً، تحسب الغيمةُ نفسها طائرةً حربية.
ولم يمض الكثير من الوقت حتى رأيتُ بعض الأشجار العالية تنحني أمام باب بيتي، وتدخل واحدة تلو الأخرى، لم تأتِ الأشجار وحيدة بل حملت بين أغصانها عدداً كبيراً من الطيور. أصواتها ملأت المكان، وكأن كل طائر منها يحمل لي خبراً عاجلاً وكارثياً.
لمح ابني بعض الأطفال يربطون حبالاً بأحد أغصانِ شجرةٍ ضخمة انتصَبَتْ قرب شاشةِ التلفاز، أدرك أنهم يصنعون أرجوحة، فخرج نحوهم بسرعة، وانضم إليهم طمعاً بنصيب من التأرجح، في الوقت الذي كان فيه العالم كله يدفعنا بكل قوته من الخلف.
عَبرَتْ طائرة حربية باب بيتي وخرجَتْ من النافذة بعد أن كسرت زجاجها، لحقتها عدة طائرات أخرى، ألقَتْ براميلها وصواريخها فوق رفوف مكتبتي الصغيرة. احترق قسم من الكتب على الفور، قُتِلَ بعضُ أبطالها وكتّابها ومترجميها، ومَنْ بقي حيّاً منهم فَرَّ من بين الصفحات والكلمات وعلامات الترقيم. لجأ قسم منهم إلى خيام النازحين، وهرع القسم الآخر للاختباء في قلب شاشة التلفاز، ومن خلالها عبّروا على الهواء مباشرة عن دهشتهم لما حدث، في وقت كانوا يظنون أن قصصهم تمّتْ، ولم تعد تحتمل فصولاً جديدة من الديستوبيا.
وفي غفلة من انشغالي بمتابعة مصائر هؤلاء الأبطال، تدفّقَ نهرٌ مجنون في قلب غرفة المعيشة حاملاً معه العديد من جثث الذين ماتوا بطلقات في الرأس، جارفاً بعض السيارات والشوائب والأتربة والأوساخ. على الفور أغلقتُ باب الحمّام وركضت باتجاه ابني، حملته وصعدتُ به فوق مسند الأريكة وكذلك فعل معظم النازحين عندي، تفرّعَ النهر وافترقَتْ مياهه باتجاهين، واحد إلى المطبخ وآخر إلى غرفة النوم.
– لماذا فتحتَ البابَ للنهر؟
لا أدري كيف سأجيب زوجتي على سؤال كهذا! امممم: الأنهار لا تقرع الأجراس؟ أو: عدسة باب المنزل لا تلتقط نهراً مستلقياً؟ لا لا: إنّ الجثث المندفعة بقوة قد خلَعَتِ الباب بأقدامِها ورؤوسِها.. لا ضير من ملءِ الجثث ببعض الأكاذيبِ والذنوبِ البيضاء بعد فراغها من ثقلِ الأرواح.
اختفتْ ملامح النهر بعد أن جَرَّ خلفه بحراً واسعاً هادراً ابتلعه. تحولت خيام النازحين إلى قوارب مطاطية. حملتُ ابني في واحد منها وبدأنا نحرّك القارب بالأدعية والصلوات تارة وبالشتائم تارة أخرى.
صاح ابني:
– لماذا لم ننتظر أمي؟
– الأم هي التي تنتظر يا بني، الأم ثابتة ونحن نتحرك.
مدنٌ عديدة بسكانها تسللت داخل بيتي في أعقاب البحر، قرى جبلية، غابات موحشة، جبال ووديان. جيوش نظامية وغير نظامية، عصابات، قطّاع طرق، ضحايا، مخطوفون، مفقودون، نساء وأطفال.
في الثورات والحروب يدخل العالم كله إلى منزلك، يتدخّل في كل صغيرة وكبيرة فيه:
– لون الأريكة صار باهتاً، تحتاج أخرى جديدة.
– اللوحة المعلّقة على الجدار مائلة قليلاً.
– هنالك عنكبوت شرع في بناء بيته عند زاوية السقف.
في الحرب، المسافة الضئيلة بين غرفة المعيشة والحمّام قد تجعلك تقطع قارتين أو ثلاث، لتكتشف لاحقاً أن نزوحَكَ الأول هو نزوحُك الأبدي الذي لن يتوقف.