كذبة اسمها: ألمانيا
ليست كما كانت في السابق أبداً، درجة الحرص في وجه أميمة تراجعت كثيراً، إلى حد تبدو فيه أحياناً غير مبالية بتفاصيل متطلبات فريد، ابنها الذي بلغ العاشرة، ربّما من كثرة ما مارَسَتْ الخوف على عائلتها في سوريا، ومن فرْطِ ما بَكَتْ وتوسَلَتْ وتضرّعَتْ تحت رحمة القصفِ الجوي هناك، لعلّها تنقذُ أقرب الناس إلى قلبها من موتٍ تَدْخُلُ رياحُهُ في أدقّ شقوقِ الحياة في المنطقة التي كانت تسكنها، بينما هي الآن في مكان أكثر أماناً، مكان يوفر لها استقراراً واطمئناناً على ولدها، لكنه لا يوفر الأشياء ذاتها لزوجها عامر وابنتها آية؛ كانت تظل شاردة الذهن، ترسم في مخيلتها سيناريوهات اللقاء ولمّ الشمل بعد الغياب، تتفاعل مع تهيّؤاتها كما لو كانت حقيقة، تبكي، تتحدث مع المقبليْن اللذين لم يأتيا بعد، تسألْهُمَا كيف قَضيَا تلك الأيام دونها ودون فريد.
– هل هذه ألمانيا يا أمي؟
– نعم يا فريد، نحن في ألمانيا، ألا تعجبك الحياة هنا؟
– بلى، تعجبني، لكنني دائماً أشعر أنها ليست كما كانوا يصفونها لنا عندما كنا في سوريا، ما علينا.. المهم أننا ارتحنا من القصف وأصوات المدافع والرصاص.
كلمات الطفل تتناهى ثقيلة جداً إلى مسامع الأم، فهي حتى اللحظة لا تستوعب كيف خطر في بالها الكذب على ابنها كذبة كهذه؟ كيف لم تدرك أن لحظة الحقيقة لن يطول بها الزمن حتى تتكشّف أمامه؟ وربما تكون ذات أثر مدمّر.
– يا رب.. أليست الجنة تحت أقدام الأمهات؟ خذني إلى جهنم.. أنا راضية، ولكن أطلب منك – لو سمحت- أن تجعل هذا المكان مثل ألمانيا التي يتحدثون عنها، لا أعلم كيف ذلك، أنت العليّ القدير.
مضت سنة كاملة على انقسام عائلة أميمة إلى قسمين، في المساءات الأخيرة التي جمعت أفراد العائلة سوية، كان ضوء الشمعة وحلم السفر إلى ألمانيا أكثر الأشياء التي تشاركهم حياتهم، بالنسبة لفريد لم يكن مهمّاً الحديث عن حقوق الإنسان أو الحيوان، ولم يكن يَستمرِئ الاستماع إلى مطوّلات والده عن القفزة الاقتصادية الألمانية، ومعاشات العاطلين عن العمل واللاجئين. كل ما كان يشغل تفكيره وعود أمِّه له بملء غرفته بالألعاب فور وصولهم إلى بلاد العمّة ميركل، كما اعتادوا تسميتها، بشرط تحلّيه بالصبر في الطريق الطويل إليها، من سوريا إلى تركيا وعبر قوارب الموت إلى اليونان، وهكذا حتى يصلوا إلى الأرض التي تراودهم في اليقظة والأحلام.
– أمي، ألم يكن والدي يقول دائماً: أهم شيء تعلّم اللغة الألمانية بسرعة؟
– صحيح يا بني، اللغة..
– مفتاح البلد، كان يقول هذا دائماً.
– هههههههه صح.
– ولكن لماذا لا يوجد أحد هنا يتحدث الألمانية يا أمي؟
ينكمشُ وجه أميمة، يجفّ حلقها على الفور، وتقوم بحركات المرتبكين الاعتيادية.
– معك حق، نحن لم نصادف إلا مَنْ هم مثلنا هنا، عليك بالصبر يا بني، علينا بالصبر جميعاً..
– ولكن لماذا؟ أنا متلهّف للّعب مع الأطفال الألمان؟ أريد أن أحكي لهم عن طائرات الميغ والـ F16، هل عندهم مثل هذه الطائرات؟ سأروي لهم كيف خافت أختي عندما رأت رِجْلَيْ جارنا أبا ابراهيم مقطوعتين ومرميتين في الشارع..
– بالتأكيد عندهم، ولكن لا يشاهدونها مثلنا.. ولا أظن أنه يجب عليك التحدّث عن هذه الأشياء التي قد ترعبهم.
– طيّب، عن ماذا أحدثهم؟
– فريد.. حبيبي، لن يفهموا عليك أي كلمة قبل إتقان لغتهم.
مع كل سؤال جديد من الطفل تكبر كذبة الأم، وتزداد دعسة الهمّ فوق أضلاعها قوة وإيلاماً، حاولت استجماع قواها أكثر من مرة لتخبره بالحقيقة، إلا أنها لم تستطع مصارحته بشيء. تَرْكُ الحقائق للزمن يعتبر أفضل خياراتها الحالية، رغم أنها تخشى تلك اللحظة، ولم يكن يشغلها عن ذنوبها الجديدة هذه إلا وصول وافدين جدد من سوريا، فتهرع باحثة عن زوجها وابنتها، هذه المرة لم تجدهما أيضاً، لكنها ميّزتْ من بين العشرات الذين وصلوا وجه امرأة تعرفها تماماً، جارتها أم سراج الخيّاطة، ركضت باتجاهها واحتضنتها، سألتها عن الطريق الذي قطعوه، وكيف كانت الرحلة؟ لكن أم سراج آثرت ألا تجيبها إلا ببضع كلمات قليلة: „الذي أتى بك إلى هنا، أتى بي أيضاً، بنفس الطريقة.. لا تستعجلي وصول الآخرين، سوف يأتون“. وابتعدت عنها.
وقفت أميمة وحيدة وهي تراقب مشاعرها التي لم تفهمها، تتحسّس بحذر شديد نبضات قلبها، تتهيأ للقبض على واحدة منها، وكأن مع كل خفقة قلب ينطلق فأر صغير هارباً خائفاً دون دراية بوجهته، ودون تفكير بالعودة، قاطعها صوت من بعيد:
– أميمة.. أميمة
استدارت إلى الجهة التي أُطلِقَ منها سَهْمُ اسمِهَا، وكانت الصدمة عندما رأته، إنه عامر، لم تصدق عينيها، للحظة شَعرَتْ بيدين تشدّان ملامحها محاولتان اقتلاعها من وجهها، وجهها الذي أحسته مثل „كنزة“ متسخة ذات ياقة ضيّقة لطفل تحاول أمّه مساعدته في خَلْعِها بصعوبة بالغة كي يسْتَحِمّ. انطلقت إليه بعزيمة مصارع وحيد في حلبة رومانية، وقبل وصولها بأشباه اللحظات تراءى أمامها وجه آية، احتضنت وجهه بكفّيها وقرّبت فمها من عينيه صارخةً: وين آية؟ آية مو معك؟ وينها؟
أغمض عامر عينيه وأخفض رأسه وقال: آية بقيت لوحدها، آية لسه عايشة.
– كيف؟ مع مين تركتها؟
– ما بعرف، ما بتذكر كل شي، لما نزل البرميل علينا، حملتها وركضت، كانوا رجليها مكسّرين، والدم مغطى وجهها، بس كانت عم تبكي، أخدوها مني جماعة الإسعاف، وطاروا فيها ع المشفى، أنا كانت إصاباتي خفيفة، رجعت لحتى ساعد الجيران اللي ضلوا تحت الأنقاض، ما لحقنا نعمل شي، نزل فوقنا برميل تاني، خلانا نوصل لعندكن دغري.
مع كلمات عامر كانت دموع أميمة تُفتّتُ روحها، عانقته بقوة، وأمطرت كتفه بالنشيج، ولم يفك التصاقهما ببعض إلا إحساسها بوجود شخص ثالث بالقرب منها، نظرت خلفها، فرأت فريد..
– كنت أعلم يا أمي أننا لسنا في ألمانيا
– فريد.. حبيبي
– ألا تخشين من الله يا أمي؟ أتريدين أن يأخذك إلى جهنم وتتركينني وحيداً؟ أهذه هي الجنة يا أبي؟ ألا يوجد في الجنة غير أولاد حارتنا والحارات المجاورة؟
– فريد.. أنت كنت نائماً عندما…
– عندما متّ أليس كذلك؟ لماذا لم نقابل الله إلى هذه اللحظة يا أمي؟ مضى وقت طويل على وجودنا هنا، ألا يكترث بنا؟
– فريد.. اسكت..
– سأطلب منه أن يعلمني اللغة الألمانية، سأحدثه عن طائرات الميغ، والـ F16، هل عنده مثل هذه الطائرات؟ سأروي له كيف خافت آية عندما رأت رِجْلَيْ جارنا أبا ابراهيم مقطوعتين ومرميتين في الشارع.. سأخبره عن رِجْلَيْها المكسورتين، وعن وجهها المغطّى بالدم، عن سيارة الإسعاف، والبرميل الذي سقط على والدي، سوف أسأله عن مصير أختي، أعِدُكِ أنني عندما أقابله، سأقول له كل شيء.. كل شيء..
ترك فريد والديه ومشى مبتعداً عنهما، ظلّت ملامحه تتضاءل في عيون أميمة مع كل خطوة من خطواته، حتى غاص في تجمع كبير للأطفال، ولم يعد مرئياً، تمازجَت تفاصيل الأطفال لتشكّل سحابةً عملاقة، سحابةً تطلق الدموع إلى الأعلى.