
عزيزتي إيفانا،
أجلس وحدي في حديقة المنزل، أكتب لك هذه الرسالة التي لا أعرف كيف أبدؤها. الأمر أصعب مما تخيلت، الرسائل للغرباء ليست أمراً سهلاً.
السماء مُلبّدة قليلاً، والمطر المتردد حسم أمره وغادر، مطرٌ عابرٌ يكفي لأن يكون حمّاماً صيفياً للعصافير الكثيرة التي تسكن معنا في هذا الحي، أسمعها تغني وهي تجفف ريشها بمناشف الشمس.
حلقات كثيرة من الزقزقة تحيط بي لتنقر النمل الأسود لأفكاري المتداخلة. أمد يدي إلى هاتفي لتشغيل الموسيقى مُطالبةً نفسي بمزيد من الصمت، لكن لمَ لا أسمح لصوت العصافير أن يحطّ على الكلام الذي أريد أن أقوله لك؟
هكذا أفعل دائماً كلما أردت أن أكتب، أدرس، أو حتى أن أهرب مما حولي، أضع سماعات الأذن وأرفع صوت الموسيقى عالياً، أسحب نفسي من الزمان والمكان وأنسل عائدة إلى مكعب الصمت خاصتي. أشرد حتى عن الموسيقا وكلمات الأغاني فلا أعود أسمعها بعد وقت قصير، لتصبح مجرد كلمات وعلامات موسيقية تطوف حول صمتي وتحميه. مثل غرفة الصمت عند بوابة Brandenburg، التي تسرقك من ضجيج عالٍ وعالم مزدحمٍ، لتُسمِعك صوت ابتلاعك لريقك وصوت تفتح رئتيك وفرقعة زفيرك أمام وجهك، تسحبك من سماع العالم إلى مكعبها لتسمعي نَفْسَك، هل كنتِ في هذه الغرفة من قبل؟
في السنتين الماضيتين أحاول ترتيب فوضى نفسي المتراكمة والتخلص من كل ما يجثم على ظهرها، وإخماد الخوف، رفيق الأيام المخلص، وتنظيف دبق غرابة أطوار الحياة والأقدار، لا أعرف من أين أبدأ وكيف أمشي في ذاكرتي، أمضي فيها مدفوعة برغبة فتح كل الأبواب.
أفتح باب بيتنا القديم، البيت الذي أتذكره كآخر بيت سعيد عشنا فيه كعائلة، أخبر أمّي فترسل لي بعص الصور القديمة ومنهم هذه الصورة.
أبي، أول الرجال الوسيمين وأوّل من لعب بشعري وقرأ لي الشعر وقال لي رشا الرشيقة، اسم يلهو في الغابة. وفرك لي الأيام اليابسة بين يديه كأنها ليست سوى نعنع يابس، أول رجل رقصت معه ورأيته يبكي ويشتاق ويقسو ويَظلم ويُظلم ويتشردق بالأيام المصفرّة التي تمر بيننا نحن ورقه الأخضر.
أمي بجانبه، يقع قلبي من جمالها، أكثر امرأة مثيرة رأيتها. المرأة التي كانت خزائنها ودروج قمصان نومها وثيابها الداخلية أول اكتشافاتي في عالم النساء الذي ما زلت مأخوذة به، ارتديت أحذيتها وثيابها كما ارتديت قصصها وملامحها ومشيت بها.
تعلمت منها وحدها أن الرقص وصوت الموسيقا العالي لا يحتاج إلى مناسبة، إن كانت تكوي أو تنظف، تطبخ، تقود السيارة، في الحفلات وحين تكون مُشرفة على البكاء.
حفرت برأسي ابنة الشام و بغرور ابنة العاصمة التي لم يكن يرضيها شيء أن المستحيل خدعة، وأن كل الأوقات مناسبة للبدايات الجديدة، ومازالت تدهشني قدرتها على إيجاد أسبابٍ إضافية للحياة كل يوم ووضع الخطط والأحلام التي تحتاج عشر حيوات إضافية لتنفيذها، لا تتعب من البدايات ولهذا كل حياتها افتراضات.
لي ملامح أبي الواضحة ووجه أمي الصارخ، رأيتني بصورتهما، كأنني صورة مدمجة لهما. أنا نتيجتهما معاً، نتيجة كيمياء الرغبة والحب والاندفاع وتصديق الأغاني الثورية والإيمان بعدالة الحياة قبل هبوب عاصفة حقيقة الواقع المُعاش.
ينتابني القلق بينما أكتب الآن، إنني أوقع نفسي في الورطة التي لطالما تجنبتها، وفي الحقيقة لا طاقة لدي لفتح جبهات من الحوارات أو الشجارات المليئة بدموع أمي التي لا تنتهي، لكنني أكتب دون أن أفكر، صوت يطوف داخل مكعب صمتي ولا أسمع شيئاً سواه الآن.
أستحق جائزة غينيس لسرعة انزلاقي في الورطات، لا أعرف مين تأتيني هذه الشجاعة الآن لأطرد الهلع الذي انتابني حين فكرت للحظة بنشر هذه الصورة على فيسبوك أو أن أمررها هنا، ورغم أنهما لم يقولا لي يوماً أنني لا أستطيع نشر صورهما معاً، لكنه كان الشعور الذي رافقني منذ أربعة وعشرين عاماً، أنني لا أستطيع أن أجمعهما بمكان واحد ولا حتى في صورة.
ذهبت حياة كل منهما بعد طلاقهما بالطريقة التي تشبهه تماماً. كل واحد منهما عاد لصورته الأصلية. رغم أن أحداً لم يسألني عن رأيي في كل ما حدث، والذي ترتبت عليه كل حياتي لاحقاً إلا أنني أرغب بأن أقول أنني أحب صورهم الأصلية.
عندما كانا معاً كان هناك شيء ناقص، وعندما انفصلا كنت قد تعودت على النقصان فاكتملت اللوحة.
اسمهما مذكور على بطاقتي الشخصية منذ حصولي عليها في الرابعة عشر، العام نفسه الذي تغيّر فيه كل شيء وصار لحياتي قطبين.
بطاقة الهويّة الشخصية هي آخر مكان اجتمعنا فيه دون ضجيج، كلما اردت أن أثبت من أنا، أخرج البطاقة.
فلماذا لا أستطيع أن أنشر صورتهما دون قلق الورطة؟ أليسا حقي الشخصي من الذاكرة؟
محبتي
رشا
ترير