Menu
Suche
Weiter Schreiben ist ein Projekt
von WIR MACHEN DAS

> Einfache Sprache
Logo Weiter Schreiben
Menu
Weiter Schreiben Mondial - Briefe > Bilqis Soleimani & Omar Al-Jaffal > Ich rede nicht gern über den Krieg, aber ist nicht unsere gesamte Vergangenheit ein einziger Krieg? – Brief 2

أكره الحديث عن الحرب، لكن أليس ماضينا كلّه حرب؟ - الرسالة الثانية

Übersetzung: Kerstin Wilsch aus dem Arabischen

Die Großmutter von Omar Al Jaffal in Bagdad © Privat
© Privat

عزيزتي بلقيس،

الحرب تبتلع الرجال، تُذيب أحلامهم وأجسادهم في نارها، وتأخذهم إلى عوالم لا نعرف عنها شيئاً. لكن النساء في الحرب -وبعدها- يهمدن في في رمادها. على مهل تنصهر طموحاتهن ومشاعرهن وأجسادهن. رأيتهن وهن غضّات، يضحكن للشمس إذا اقتربت من جلودهن، لكني أيضاً شاهدتهن كيف يتحوّلن إلى كهلات، لا يقوين على الحياة وهي تقسو عليهن ببلطات مصائبها.
فُقد عمّي في الحرب بين العراق وإيران عام ١٩٨٧. هو عمّي الوحيد، و لم أعرفه أبدًا لأني ولدت بعد تغيّبه. بطبيعة الحال حيكت الأساطير حوله… حول وسامته ووقاره وطوله وصمته.
عمّي هذا يُدعى حسين. كانت له صورة وحيدة مُعلّقة وسط بيت جدّتي المبني على الطراز البغدادي، حيث الضوء ينفذ من السقف مُوزّعاً أشعّته على البلاط الأحمر والجدران الحليبيّة وزجاج النوافذ الملوّن. كانت جدّتي، تنحدر من جنوب العراق ولها وشوم على كلّ جسدها، تجلس أسفل الصورة. عمّي في الصورة كان يبقى شاباً على مدار السنوات، بينما جدّتي تزداد كهولة، وتُكثِر من التدخين وشرب الشاي الذي يزداد اسوداداً بمرور الوقت.
أتذكر صورتها الآن: تجلس على الأرض، مُحاطة بدخان السجائر وإبريق الشاي الذي يغلي، بينما يتداخل الضوء بالدخان والبخار ليشكّل لوناً بين البرتقالي والبنفسجي الفاتح والرمادي.

أحبّ عمّي جارتنا، وهي أحبّته.
لم يكن أحد يعرف عن هذا الحبّ إلا القليل داخل عائلتنا: بعض عماتي، وجدّتي ووالدي. لا أستطيع الآن حتّى ذكر اسم تلك الفتاة، لأني قد أسبب المتاعب لها، أو قد أدمّر زواجها! تخيلي! بعد كل تلك العقود قد يشعر رجلها بالغيرة! أن يُجرح كبرياءه لأن زوجته عرفت أو أحبّت رجلاً قبله!

المهم يا بلقيس..

أتذكّر تلك الصبيّة. بيضاء، طويلة، تسير وكأنها تمسك بيدها أشعة ضوء الدنيا كلها. لكن عينيها وكأنهما بئري حزن عميقين لا نهاية لهما. شاهدتها بمرور السنوات تذبل وهي تنتظر حسين. وفي آخر الأمر تزوّجت. كانت تأتي، تحضن جدّتي بقوة حتى أكاد أسمع صوت عظام ظهرها تتفكك وتقول: رائحتك تشبه رائحة حسين، وتقبلها على وجنتيها ويدها اليمين الموشومة بمفتاح طويل يمتد حتّى كوعها.
حسين لم يُقتل ولم يُأسر وإنما سُجّل مفقودًا في الحرب! يعني ذلك، أن الجميع كان يتخيّل دخوله علينا في أيّة لحظة. كأنما العائلة نصبت ورشة جبّارة لصناعة وسائل الانتظار. تضعها في عُلب كبيرة ملمّعة ثم تنثرها في البيت، وتغذينا منها باستمرار نحن الأولاد والأحفاد.
نحن الذين ولدنا أثناء وبعد الحرب، كنا مُجبرين على عيش حروب تلتها. هي حروب داخل المنازل وغرف النوم. كانت تلك الصبيّة في حربها الخاصّة تفكّر بقرارات مصيرية إذا ما عاد حسين فجأة. جدّتي كانت في حرب أخرى مع عمّاتي ووالدي، إذ إنها لم تقبل بإجراء أي ترميمات على البيت، لأن حسين لو جاء لن يعرفه، وسيضيع ولن نجده مجدداً!
لوالدي مخاوفه على حسين: كيف سيشرح له تغيّر بغداد وواقعها القاتم! أما أصدقاؤه فكيف سيخبرونه أنهم تزوجوا ولم ينتظروه ليحضر أعراسهم! أما ملابسه، فقد قرّرت جدّتي أخيراً منحي إياها عام ١٩٩٨، وسط الحصار الاقتصادي على العراق، لأن العيد جاء وليس باستطاعتها شراء ملابس جديدة لي.
في ذاك العيد، أتذكّر كيف قصّرتُ سراويل حسين ولبستها. سروال رمادي وآخر كُحلي مخططان بخطوط رفيعة. كانت المرّة الوحيدة التي وجدت جدتي عُذراً لنفسها أنها خانت حسين بتوزيع أغراضه. قالت „سيفرح أن أولاد أخيه كبروا وصار بإمكانهم لبس ملابسه“.
بعد أعوام من ذلك، سأعرف عائدين من الحرب، فقدوا أجزاء من حياتهم وأعضائهم في الحرب. هؤلاء، بالصدفة، نجوا من الحرب. كانوا شعراء جيل الثمانينيات. صرت صديقاً حميماً لكثير منهم. دلّني هؤلاء إلى مكامن معطوبة في النفس لم يصلها أحد قبلهم. أرواح كسيرة، تُمجِّد العدم، وصرت أنا واحد منهم.
لا بد وأن أعطيك لمحة عن أعمالهم، أو على الأقل مقاطع من قصائدهم؛ محمّد مظلوم ولد أوائل الستينيات، وكان سائق دبابة في الحرب، كتب: „أيتها الحياة.. يا أرملتي“.
ناصر مؤنس يتحاشى الحديث عن الحرب، وهو مشغول بالغيب والعدم والأعشاب والسينما، كتب: „تصير الأكفان / ملائكة تصافح المارة“. نصيف الناصري، تعلّم القراءة والكتابة في مدارس محو الأمية، لكن لديه جدولاً يومياً لكتابة القصائد، كتب: „أحلامي ميتة كلها“. باسم المرعبي يقيم في السويد، كتب: „لأيامي شكل نقود معدنية مرّ عليها القطار“. حميد العقابي مات في الدنمارك كتبَ „حتى أبوابَ انعتاقنا سـرقوهـا“. مات آدم حاتم في التسعينيات ولم التقه، كتب: „وإن كان عليّ/ أن أحيا مجبراً/ ستجدني ذات يوم قتيلاً في الوديان البعيدة“.
بطبيعة الحال، هناك قصائد وأبيات كثيرة لهؤلاء أنفسهم وغيرها لآخرين. شعر يشبه الشفرات: حاد وباتر يحفر في الروح بقسوة. التهمت قصائد وكُتب ومُذكرات هؤلاء، عشت في الجبهة رغم أنني لم أطأ أرضها يوماً، ولم أكن جنديّاً، ولن أكون.

يا بلقيس..
أكثر من مرّة كنت أقول لنفسي: لا! لن تذكر قصص حسين إذا ما تعرّفت إلى إيراني مرّة أخرى. لا يجب أن يكون ماضي حرب بلدينا مصدر أحاديثنا. أكره الحديث عن الحرب، لكن أليس ماضينا كلّه حرب؟! على كلّ حال، ها أنا أعيد القصّة عليكِ. ومردّ ذلك، ربما، لأننا جميعنا لدينا القصص ذاتها عن الحرب: الحبّ، الرعب، الكسران والخسران. نود مشاركة كل ما عشناه لنعرف بعضنا أكثر، لنكسر الأساطير التي خلقتها أنظمتنا حول بعضنا البعض.
في عام ٢٠٠١، عندما انتقلنا الى سوريا، كانت المرّة الأولى التي رأيت فيها أُناساً بهذا العدد يتكلمون الفارسية. كانت منطقة السيدة زينب، التي يُشاع أن زينب ابنة الإمام علي ابن ابي طالب الخليفة الرابع للمسلمين لها مقام فيها، تضم شيعة من كل العالم، وكان من ضمنهم إيرانيون. لم يسبق لي سماع هذه اللغة، آسرة، الناس وكأنهم يُغنّون عندما يتحدثونها، وخاصة سكّان طهران، يمطّون الكلام ويليِّنونه. بتنغيم الحكي، يجعلون أقصر كلمة طويلة. سمعت أيضاً عراقيين كبروا في مدينة قُم وهم يتحدثون العربيّة بلهجة فارسية، لكني رغم ذلك، لم تسنح لي الفرصة لمصادقة الايرانيين وقضاء وقت معهم.
بيد أن ذلك حصل في مُدن عدّة هنا في ألمانيا.
في مدرسة اللغة الألمانية دخلت سيّدة إيرانية في أواخر العشرينيات من عمرها إلى الصفّ الذي كنت أدرس فيه وكانت معها ابنتها التي تبلغ من العمر ستة أو سبعة أعوام. تركت الفتاة الصغيرة كل الفصل وجاءت لتجلس إلى جانبي، وهكذا وطّدت العلاقة بيني وبين والداتها. صرنا نطبخ سويّة، نتحدّث عن الخيّام، وسهراب، والزعفران، ولا نأتي على ذكر الحرب إلا لماماً.
المهم، هو أننا كنا نتحدّث بلغة ابتدعناها: خليط بين الألمانية والعربيّة والفارسية. لكن الفتاة الصغيرة كانت تضحك منا وعلينا، وكانت تصحّح لنا لغتنا الألمانية كمعلمة أمضت عمرها في التعليم.
الفتاة الصغيرة كانت مثل „دليل مُحدّث“ للحياة. أجبرتني على الرقص والغناء في الشارع، حدّت من تدخيني، والأهم قالت: „لا حديث بعد الآن عن الحرب. لنأكل بطاطا“.
رضخنا لأوامرها. وصارت دليلنا إلى الحاضر، بعد أن كان الماضي يأخذ جلّ أحاديثنا.
في الجامعة، كان ثلاثة زملاء إيرانيين ينحدرون من مُدن مختلفة، أقربهما إلي علي وكاظم.
علّمني علي طريقة مُثلى للف السجائر، بعد أن فشلت لعامين في لفّ سيجارة صالحة للتدخين. (هذه فرصة للتدخين الآن!) كان علي يأتي كل يوم منهكاً والنعاس بادعلى ملامحه، يقضي طيلة الليل وهو يُعارك شريكته. كل صباح يقول „الحرب في منزلي أصعب من الحرب بين العراق وإيران“.
نضحك من علي. نضحك من الحرب، رغم أن كلاً منا فقد جزءاً من عائلته في الجبهات.
في شتوتغارت، صار لديّ أخت إيرانية. موسيقية من طهران، من أوائل الكلمات التي تعلمّتها في الألمانية هي (Bruder – أخي)، وصارت تناديني بها. انتقلنا بعدها للعيش في برلين. وفي إحدى بارات العاصمة الألمانية سألنا النادل عن جنسياتنا -وهو أمر مزعج ومُتكرر الحدوث هنا-. أخبرناه أنني عراقي وهي إيرانية. فتح عينيه على وسعهما، وأرخى شفتيه، وقال: „كيف؟!ّ ألم تكن بلادكما في حرب؟!“.
ضحكنا، فقط ضحكنا بلا رد. هل نملك ردّاً أصلاً؟!
صديقتي مُنى وأنا طوّرنا علاقة لا يفهمها كل من حولنا. نتحدّث عن موسيقى وأناشيد حرب بلدينا، عن „اللطميات“، عن الطقوس الدينية الشيعية، عن الكلمات المشتركة بين الفارسية والعربيّة. وعن السياسة. حديثنا يجري بلغة أكثر غرابة: انجليزية، ألمانية، عربية، فارسية، والكثير.. الكثير من إشارات اليدين، واستعمال عضلات الوجه.
منى تقول دوماً „![uck, how we fought the eight year war“.
الآن يا بقليس أخبرك بصراحة، لم أستطع ولا مرّة الإجابة على استغرابها. هناك ألف سبب لخوض العراق وإيران الحرب. قرأت مئات الصفحات التي حاولت إيجاد أسباب سياسيّة وأمنية واقتصادية لها؛ ولكني كفرد أعزل لا أجد من بينها جميعا سببا مقنعا.
رغم ذلك، فانا أستطيع لمس آثار الحرب علينا -نحن الأجيال المختلفة التي عاصرتها أو عاشت في ظلالها- وشهوتنا الدائمة لتجاوزها، وعيش حياة عادية، ممُلة حتى.
كتبتُ مرّة „تعبت من النجاة“، وكانت بغداد تشهد كل يوم عشرات التفجيرات، وكنت أخرج منها سالماً، لكن شظايا الخوف تنبت في فؤادي. الخوف مثل الكهرباء ينتقل من جسد إلى آخر، ويمكن لمسه والشعور بتياره الجارف في الجلسات.
بعد وصولي الى إلمانيا كتبت „نريد حياة فحسب“. جاءت هذه القصيدة نتيجة مُحادثات طويلة مع أصدقاء وزملاء وحتى غرباء. لطالما شغلني سؤال الحياة ومعناها، وماهيتها. كتاباي الشعريان يحملان كلمة الحياة في عنوانيهما: „خيانات السيدة حياة“، و“الحياة بنقالة متهالكة“.
وأنا أعرف تماماً أن الحياة لن تكون سهلة أبداً، لكن شريكتي تقول دائماً „لنتحدث“ علّنا نفهمها، أو نخفف من قسوتها.
إذاً، لنتحدّث عزيزتي بلقيس. رسالتك، كل مفصل منها، يُحرّك أسئلة بداخلي. لكني لن أسأل كثيراً هنا، أود للحديث بيننا أن يسترسل من دون تحوّله لحوار صحفي. لندع الاجابات والقصص تتداعى. لكن حدثيني عن اكتشافك للأدب، لحظات الكتابة الأولى، إنهاء الكتاب الأول، أول قراءة لك أمام الجمهور. و“الحديث“ مع الأصدقاء والزملاء والأقارب..
بانتظار رسالتك القادمة بحبّ.

كل الود
عمر

Autor*innen

Datenschutzerklärung

WordPress Cookie Hinweis von Real Cookie Banner