Menu
Suche
Weiter Schreiben ist ein Projekt
von WIR MACHEN DAS

> Einfache Sprache
Logo Weiter Schreiben
Menu

أحسد اللقالق _ الرسالة الرابعة

Übersetzung: Günther Orth aus dem Arabischen

a picture of me on the beach in Rabat, and on top an illusion of Melehi.© Abdulrahman Alqalq Illusion of Melehi

عزيزتي رشا،

مضى أكثر من شهرٍ على كتابتي لرسالتي الأولى لكِ! لقد تغير الكثير!

ربما كانت تلك الرسالة مجرّد تسميةٍ لرغبتي بِما أريد للأشياء أن تبدو عليه. فتجاهلت بها كل جديدٍ أحاط بي دون أن أفهمه! لكنني اليوم أدرك الفرق بين ما أقول أنني راغبٌ به، وبين ما يصنعه جسدي على أرض الواقع، باحثًا عما يرغب به دون تنظيرٍ وتفكير. ولعلّ رغبتي كانت راديكاليةً لمّا قلت لكِ أنني أريد تحرير نفسي من الانتماء إلى أي شيءٍ؛ فإذا بجسدي يمنعني ويحاربني منذ بداية سنتي الدراسية في المغرب، بشكلٍ لم يكن منطقياً بالنسبة لي! فبينما تخطط زميلتي الألمانية رحلات استكشافها في المغرب، أجلس في المنزل محاولاً التعافي من مرض بعد آخر، وتعب غير مفهوم يمتص كل طاقتي، هو جسدي يحاول تنبيهي فأتجاهله، يمنحني فرصة بالتعافي فأتجاهله مرّة أخرى، فيعود ويقعدني بمرض جديد!

خرجت في الصيف الماضي مع الأصدقاء والصديقات إلى النهر. سألتني صديقةُ عن ندبةٍ كبيرةٍ تعلو كتفي الأيسر، جاوبتها ساخرًا وغيّرت الموضوع بسرعةٍ كي لا أضطرّ لتذكر وجه الجندي الذي ضربني بكعب بندقيته في دمشق قبل أعوام. لطالما ربطتُ ذاكرة جسدي بما يظهر منه ويُرى، مثل جرح كتفي أو مثل الربو التحسسي في مدننا التي تعلوها السحب السوداء، وتجاهلت تلك الأخرى التي لا تُظهر ندوباً نراها ولا صوراً نتذكرها!

ثقتي المسبقة بأن عودتي للجنوب هي أكثر ما أحتاجه ليقويني سنيناً للأمام، جعلتني أنسى ذاكرة الجسد الأعمق. الجسد الذي يفهم ويحسّ بكل شيءٍ حوله ويخزّنه في مكانٍ لا سلطة للعقل عليه، لعلّه يظن أنه وبعد انتظار سنواتٍ للوصول إلى „برّ الأمان“ في ألمانيا، أنني الآن في صدد إخراجه مجدداً من محور البيت الذي بناه! لعله ظن أن هذا الذي يحدث هجرةً أخرى! ولعلها طريقته ليقول: لا، يكفي! لن أخوضها معك مرةً ثانية!

تقول ويكيبيديا أن جيلبرت بيكر هو من صمم علم قوس قزح عام 1978 في سان فرانسيسكو. إلا أنني كلما دخلتُ متحفاً مغربياً يحتوي لوحةٌ من أعمال الفنان المغربي محمد المليحي (بعضها بين عامي 1975 – 1976) تقول لي كل لوحةٍ أنظر إليها أن ألوان قوس قزحٍ خرجت من هنا! من البلاد التي يبتعد أهلها عن الظل إن تكلّموا، لأنهم يعبّرون عن مشاعرهم باللون لا بالكلمة.

يتكلم المسرح المغربي أيضاً لغةً مليئةً بالألوان بين الفرنسية والعربية والدارجة المغربية. لغة مسرحٍ كهذا أظنها قادرةً على تحويله وتغييره من خلالها دون أن يتمركز على ثقافةِ لغةٍ واحدةٍ، يتقوقع بها بفوقيةٍ عن العالم. هذا النوع من المسارح يجلب عوالم كثيرةً إلى خشبته دون عناء.

لا يهتمّ المغاربة كثيراً بنظريات مابعد وتفكيك الاستعمار التي درستها من أساتذتي الألمان. أظنهم ييتخلصون من الاستعمار الثقافي باللون قبل الكملة!
ما أسرع اللون! وما أبطأ الكلمة!

في مدينة القنيطرة المغربية أناسٌ طيبون جداً، يملؤهم الحب والتواضع والتسامح. يرعون أعشاش اللقالق المنتشرة فوق أسطح بيوتهم، كأنها مآذنٌ أو أبراجٌ تصلهم بالسماء البعيدة وتحمل لهم أخبار المدن البعيدة التي تجلبها اللقالق معها.
أنظر إلى اللقالق وأحسدها كيف استطاعت أن ترى اتساع الفجوة بين الأرض التي يتوق البشر إليها، وبين كل ما يرتكبونه بحقها وهم يصوّبون كلماتهم وأعمدة مصانعهم وأنابيب نفطهم وقنابلهم نحو بيوت الناس.. أو نحو الأرض كلها، آخر بيوتنا.  أيكون في نظرتي هذه شيءٌ من الشاعرية لأنني ابن المدن البعيدة؟ أم أن طائر اللقلق هو حقاً أذكى مَن هاجر على كوكب الأرض، فمنذ أن أحسّ باكراً بانهيار مناخنا، صار يعلّم نفسه أن يقلل من هجرته من قارةٍ لأخرى، ليطيل بقاءه شمال إفريقيا، ويبني أعشاشه الضخمة على مرّ سنواتٍ عند مصب نهر سبو بالقرب من الرباط؟!

حسدتُ اللقالق. تهاجر وتبني أعشاشها هنا وهناك، ثم تستقرّ حيث تشاء وتجد ما يناسبها. الهجرة بالنسبة لها أمرٌ طبيعيٌ. أمرٌ لا يحتاج جلسات استماعٍ وتحقيق. (الهجرة فعلٌ طبيعيٌ للكائنات على كوكب الأرض) قد يجبر تغيرُ المناخ البشرَ على ترديد هذه الجملة في السنوات المقبلة. لكن من المحتم أن حرّاس الحدود لن يصدّقوها أبداً، مهما حصل وتغير!

تمتدّ أشرطة الماء مسافةً طويلةً على جانبي سكة القطار بين مدينة الرباط والقنيطرة جاعلةً من حقول الأفوكادو تزدهر بينما تتصحّر الأرض من حولها. كلّ شيءٍ يقلّ ويعاني هنا، عدا زراعة الأفوكادو التي ترعاها شركةٌ أجنبيةٌ، ضاربةً هواجس العطش في المنطقة عرض الحائط! لا أعرف إن كانت اللقالق قادرةً على البقاء هنا بعد قرنٍ من الزمن!

هامش في المنتصف: (ستة جملٍ من عالمٍ واحد)

  1. وضع سائق التكسي الذي أقلّني من المطار موسيقىً أمازيغيةً جميلةً سحرتني، وظلّ يرحّب بي طيلة الطريق!
  2. في صباح اليوم التالي سمعتُ المذيعة تتحدث من الراديو المرمي فوق عربة بائع السمك: عن جثثٍ متناثرةٍ على الأرض في بركةٍ من الدماء، تعلوها أقدام قوات أمنٍ ترفس وتضرب المتشبّثين بسياج الحدود الإسبانية في مليلية.
  3. في أول يومٍ في الجامعة قلتُ لطالبٍ مغربيٍّ أنني منذ أن بدأت دراستي في ألمانيا وأنا أفكر بإكمالها في المغرب أو في فلسطين. فقال لي أنه كذلك منذ بداية دراسته وهو يبحث عن طريقةٍ لإكمالها في باريس.
  4. أيهما أسهل؟ إخراج الأفوكادو من أرضٍ تموت؟ أم إعادة اللاجئين للأرض الميتة؟
  5. أيها يجمع حكومات العالم أكثر؟ الأفوكادو؟ أم اتفاقيات اللاجئين؟
  6. شعرت بالإحراج الشديد مرتين هذا العام: حينما عبرت حدود أوروبا لأول مرةٍ بجواز سفرٍ. وحينما أكلت الأفوكادو المقطّعة بالشوكة والسكين!
  7. تقول نيكول كدمان في فيلمٍ نسيت اسمه أن العدالة الإنسانية تتحقق في الروايات والأفلام فقط.

يسألني الناس هنا حينما يسمعون خليط لهجتي العربية مباشرةً „من أين أنا؟“ وهو سؤال جوابه طويل: طالبٍ ضمن بعثة دراسية لدولة أوروبية، يحمل جنسيتها بعد أن لجأ إليها مع السوريين قبل سبعة أعوامٍ، وهو ابن عائلة فلسطينيةٍ، عاشت حياتها في مخيمٍ للاجئين في دمشق.

اتسع المنفى عليّ أبكر مما ظنت. لكن حتى بالعموم، كيف لجيلي اليوم أن ينتمي لعالمٍ ينهار باستمرار؟ كيف نتحدث عن مفهومنا للسلام، في ظل حروبٍ يخوضها أناسٌ „سعياً“ للسلام؟ كيف نتحدث عن معنى بيتٍ أو وطنٍ في وقتٍ لم يبق فيه لملايين البشر حول العالم سوى الهجرة، هرباً من الدكتاتوريات ومن انهيارٍ مناخيٍ متسارعٍ، يقلب العلاقة البشرية فيما بينها، وما بينها وبين الأرض، رأسًا على عقد؟

لدي أسئلةٌ كثيرة. لديّ مخاوفٌ كثيرة. لدي رغباتٌ دون أسبابٍ، مثلًا: أن أبقى مولعًا دومًا بالأشياء البعيدة! كأن أرغب الآن بالعودة لغرفتي الصغيرة في هيلديسهايم الباردة!
لا أستغرب من رغبتي هذه! إنها غيرة جسدي من طائر اللقلق! لكنني أستغرب وأخجل من معرفتي ما سيحصل مجددًا في الغد،
أنني في هيلديسهايم سأرغب مجددًا بالهروب إلى الجنوب!

أي جنوب؟ هل للجنوب الذي نعنيه أرضٌ أم أنه ما نقصده حينما نكون في الشمال، حيث نتتبّع أزقة بيوتنا القديمة فوق خرائط غوغل؟ في خطوط الطول والعرض التي نستعيرُ فيها العِلمَ مجازاً لإطلاق مشاعرنا، نتتبّع الطرق إلى بيوتنا، فوق شاشةٍ تتقلص فيها الأرض بين كفّينا إلى كرةٍ رخاميةٍ زرقاء! نحاول أن نصدّق وصولنا إلى أي مكان. نتتبّع الإحداثيات ونسير خلفها، وتتقطع الطرق بنا أحياناً، فنضيء شاشات هواتفنا ليلاً تحت اللحاف، باحثين عن طريق آخرَ ينتظرنا خلف الجدار كي نمشيه. ربما هي محاولةٌ للنظر لخوارزميات خرائط غوغل وكأنها مسافةٌ صوفيةٌ، نستعير بها شعوراً بمكانٍ لا زمان له في مكاننا الحاضر!

لدي أسئلةٌ كثيرة. لديّ مخاوفٌ كثيرة. لدي رغباتٌ دون أسبابٍ:
كأن أرفع اللحاف عن رأسي صباحاً وأجد عالماً لا أسئلة فيه، هربًا من الأجوبة!
لا تُبنى البيوت فيه، هرباً من الحرب!
لا يكون الوصول فيه، هرباً من الشتات!
ولا اكتفاء فيه، هربًا من الرغبات!

عبد الرحمن القلق
الرباط، 01.11.2022

Autor*innen

Datenschutzerklärung

WordPress Cookie Hinweis von Real Cookie Banner