* ترجمة يوسف حجازي
عزيزتي مريم،
أشكرك على رسالتك المرهفة وإلى الإشارة إلى ليلى، فالفتاة في نسختنا من هذه القصة
ليس لها اسم، بل تُكنّى بقبعتها الحمراء.
صحيحٌ أنني عند القراءة آخذ العبارات بمعناها الحرفي وألعبُ بمعناها وجرسِها. وعند الكتابة“، مثلك تمامًا، أشكِّلُ جملاً من قطعٍ مكسرةٍ „ألتقط الوزنَ والقافيةَ من النفايات“. نحن الكاتبات نبتكرُ علاقاتٍ غير معهودةٍ، بينما ينشغلُ كثرٌ من حولنا بزعزعةِ الارتباطات أو بدفعِ القصص الزائفةِ إلى الواجهة.
حاليًّا الفيروس يحدد حيّز حركتنا. أنتِ تتحدثين عن صوته. أمرٌ أجدُهُ لافتًا وأتخيلُ وقعَهُ. هنا الوضع معكوس، فصمتُه وتخفِّيه يقلقان الناس. لا نسمعُ شيئًا عندما يدنو الفيروس منا ويستحكم بنا، ولكي نحمي أنفسنا، نقومُ بحركاتٍ وإيماءاتٍ غير معهودة ونتجنبُ الملامسة، نغدو أشبه بممثلين صامتين لأنَّ وجوهنا لم تعُد تظهر كاملةً، نضع الكمامات فنصبح أكثر خرسًا. لا بدَّ لنا من أن نتعلم لغة العينين والحاجبين والجبين أولاً.
لكن كُلما ازددنا عزلةً تجلّت حاجتنا لأناسٍ آخرين أكثر، فحتى وإن لم نتعامل معهم مباشرةً، يظلُّ وجودُ الآخرين يُهدِّئنا. نحن الآن في مطلع حزيران/يونيو ويمكنني أنْ أقولَ: نحن بخير، فلا إطلاق نارٍ هنا، ولا سطوة لحربٍ، وكلُّ أفراد العائلةِ بصحةٍ جيدة. نستطيع الذهاب إلى الطبيب، وجلب الطعام، واللقاء بالصديقات والتنزه في الحدائق الوارفة الشاسعة تحت الشمس. طبعًا نرى الأغطية الشفافة أو القماشية وذلك الحاجب البلاستيكي على وجه النادل، وقفازات المُحاسِبَةِ في السوبر ماركت، والكمامات تغطي الأنوف والأفواه. طبقة للحماية تغلف الحقيقة، نتحرك عبرها، مثل رقيقة البلاستيك التي تُستعمل لحفظ الطعام طازجًا والتي تتداخل وتتلاصق ببعضها البعض بسرعةٍ فتغدو بلا نفع. يتغبش الحدُّ بين الحماية والأَسْرِ.
تروي لي صديقاتٌ أنهن بدأنَ بصبغ شعرهن الذي أمسى شائبًا لكي لا تظهرن „مسنّات“ فوراً، وبالتالي يتعرّضن للتميّز لأنهن ينغّصن على الشباب حياتهم الجذلى.
تكتبين في رسالتكِ „سابقًا حين كانت الأمور على ما يرام“، فما هي تلك التغييرات التي طرأت على الوضع الحالي وكيف أدركتِها؟ آسفة إن كنت قد تجاوزت الحدّ بهذا السؤال، لكني أرغب بأنْ أفهم، أرغبُ بأنْ أتبينكِ بشكلٍ أفضل.
تذكرين أيضًا أنك تكتبين بعدّة لغاتٍ وأنك تترجمين لكي تُعرِّفي بالقصص المكتوبة بلغاتٍ أخرى. فما هي تلك القصص؟ وكيف لك أن أتقنتِ هذه اللغات المختلفة؟
شاءت الصدف أني أشتغلُ للتو على مقالةٍ تتناول تعدُّدَ اللغاتِ، لأني لطالما التقيتُ أثناء إقاماتي في بلدانٍ مختلفةٍ بأناسٍ يتكلمون عدَّةِ لغات. لا بل حتى أولادي نشؤوا متعددي اللغات. أورِدُ في المقالةِ أمثلةً كديانا نيري ولكن أيضًا كالكاتبة الألمانية التركية كوِبرا غوِموِساي التي تسعى لأن تبيِّنَ أنَّ نصوصًا فلسفيةً كثيرةً من تلك التي تُعتبرُ عالميّة وعامَّة لا تعكس أن اللغات والهويات يمكنُ أنْ تكونَ متنوعةً.
عندما كنت أقرأ جوابَكِ فكرتُ أيضًا بأنَّ هنالك شخصٌ ثالثٌ يشاركُ في الكتابةَ من خلال نقلهِ كلماتك إلى لغتي وكلماتي إلى لغتك. هذا الغشاء الرقيق مشدودٌ بين نصوصنا يلاصقُها كما تفعل رقيقة البلاستيك التي أسلفتُ ذِكرَها.
لا أدري لماذا تخطرُ ببالي مجددًا. ربما لأنها عمليَّة، ولكن أيضًا لأنها اختراعٌ فظيعٌ. ألفُّ الآن عجَّة الكيش Quiche التي خبزتُها اليوم، والتي لن أستطيع أكلها كلها بمفردي، متذكرةً الأماسي المشتركة مع أولادي، بهذا نكون قد عدنا إلى الطعام مجددًا.
يا ليتنا نستطيع إرسال الروائح والنكهات!
انتبهي لنفسك وابقي بصحة جيدة!
هكذا أودع صديقاتي الآن، هكذا أودعكِ،
زابينه