Menu
Suche
Weiter Schreiben ist ein Projekt
von WIR MACHEN DAS

> Einfache Sprache
Logo Weiter Schreiben
Menu

نساءُ السّل - (مقطع من رواية)

Reber Yousef
© Darin Ahmad, title: Nature (Thicket) 8, Acryle on canvas (2020)

„الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء“
ابن خلدون

أ
خطوات الخيول تحت الأحمال نثرت نور القمر، واستودعتهُ الصخور والحجارة المنتشرة على أقدام جبال (ماردين). سرعان ما قضم الحصانُ العشبَ المشبع بالضياء وحمحمَ؛ إذْ أفلتَ (كالو) العنان له، سعّر نار المشعل بزفراته الحادة، ومرَّرها على أسطح الصخور كأنّه يقرأ بواطنها، حتّى هدأت عيناه في صورة الشمس المنقوشة على إحداها. أدار رأسهُ صوب (سلتي)، صحّحَ موضع الضماد حول معصمه الأيسر، كان قد شقّه بخنجره وعبّأ موضع الجرح مِلحاً، فيتوجّس بالألم، وينتصر على النوم في الليالي العديدة القادمة. رفع المشعل إلى مستوى وجهه فتزمّل بالضوء، ومَرَّرَ راحة يده اليسرى على لحيته المخضّبة الطويلة. زفرت (سلتي) المترجّلة تحت شال كمّمَت به وجهها، قبضت على المشعل وحرَّكت رأسها الممسوس بالشعاع المتراقص كجناحي فراشةٍ متأهّبةٍ، وبسطت نظراتها نحو (كالو)؛ إذْ نَكَتَ أسفل الصخرة بخنجره، وأخرج من باطن التراب صندوقاً معدنيّاً بحجم كفّ المتربّص، كمَّمَ نار المشعل بالتراب فاستسلم وانطفأ، من ثمَّ أكملوا صعود سلسلة الجبال المتشرّبة بنور القمر يجرّون وراءهم آثار أنفاسهم الوازنة.
– متى نصل يا عمّتي؟
بالكاد استطاعت (سلتي) فصل بحّة (عَيشانه) عن أصوات الحوافر المواظبة على حَفرِ ظلام الدروب السريّة. سرحت في سؤال الطفلة المندفع صوبها مثل طيرٍ هبّ فجأةً من بين أغصان شجرةٍ كثيفة الأوراق، فدفعت الطفلةُ صوبها السؤال مجدّداً، لكنْ هذه المرّة بنبرةٍ أشدّ رأفة:
– متى نصل يا عمّتي؟
– لماذا تسألين يا ابنتي؟
جاوبتها العمّة من وراء شالها الرطب الأبيض، بنبرةِ لسانٍ لدَغهُ الخوف.
– أنا تعبة، أريد أن أنام، فلنتوقّف قليلاً.
قالت الطفلة بنبرة الملتفتين إلى بيوتٍ غادروها، أرادت البقاء على حدود موطن ولادتها أطول مدّةٍ ممكنةٍ، فاستنجدت بالنوم. هل يوقّف النومُ الزمنَ؟
– فلْنسترح هنا بين الصخور حتّى طلوع الفجر يا (كالو).
رَبَتت (سلتي) بصوتها الهشّ على أذني (كالو) الذي يتقدّمهم جارّاً حصانه. وبدون أن يلتفت (كالو) إليها، بدون تفكير، كأنّه أعدّ سلفاً معظم الأجوبة لجميع الأسئلة طوال مدّة مسيرهم:
– الشمس ستكشفنا للجنود العثمانيّين، سنكمل الآن، وقبل طلوع الفجر نستريح، يجب علينا المواظبة على السير وحسب يا خانم.
استسلمت (عَيشانه) لفكرة السير حتّى الفجر، وأسندت رأسها إلى رقبة الفرس، وحضنتها بكلتا يديها.
– لا تغفي على الفرس يا (عَيشانه)، كيلا تسقطي أرضاً.
قالت (سلتي) بنبرةٍ حادّةٍ شبيهةٍ بلدغة سوطٍ مصنوعٍ من ذيل حصان، ومضت صوبها كي تنزلها عن ظهر فرسها.
كلّ شيءٍ بدا ظلّ أشياء راحلة، كلّ فكرة، كلّ حصوة، كلّ صخرة، كلّ حفنة تراب، كلّ وقع خطوة، كلّ تمتمة، كلّهم كانوا ثقالاً يظهرون على ظهورهم المنحنية. كان كلّ شيء هو نفسه صورة الاغتراب التي رافقت ثلاثة خيول تجرّها طفلةٌ، وعمّتها، وخادمهما.
كان (كالو) في الثانية عشرة آن أطلق الضابط العثماني النار على والده؛ إذْ نَهَرَه معترضاً على تبوّل الجنود بجانب تنّورهم. لم يبك (كالو)، رفقة أمّه وسيراً على الأقدام هجرا قريتهما صوب مزارع عشائر (الدنا) الإيزيديّة، بمنطقة (ماردين)، لتموت أمّه إثر السلّ بعد عام، معزولةً وحيدةً في كوخٍ طينيٍّ على أطراف البساتين. لا أحد يعرف عنه شيئاً، لم يحدث أنْ سألهُ أحدٌ، كان هذا الأمر جلّ ما يقلق ويشغل بال (كالو). مرّات عديدة، قبل الخلود إلى النوم، تمتمَ على وسادته: „وجودي من صلب عدمي، فقط الحجارة، والأشجار، واليتامى لا يُسألون“.
كثيراً ما تمنّى أن يسأله الآخرون ليجاوبهم: „لا أعلم“. حضّر في داخله ذاك السؤال وتلك الإجابة طوال العقود الثلاثة التي أنفقها في خدمة قصر القائد (قاسو).
– انتظرا هنا ريثما أتفقّد المكان.
وبعد لحظاتٍ عاد (كالو) ليَلجوا جميعاً بطن كهفٍ عميقٍ كابتهالات المهَدَّدين.
مثل أجنّةٍ داخل الأرحام سبحوا في بطن الكهف، خشخشة ثيابهم الممزوجة بأصداء زفراتهم خدشت الظلام التام، آثار حركاتهم بدت الشاهد الوحيد عليهم، هي إشارات وجودهم الوحيدة الآن، لا يعلمون ما إن نامت خيولهم واقفةً أم مستلقيةً، فكّر (كالو) بهذا. الشيء الوحيد الذي تأكّدت (سلتي) منه هو أنّ (عَيشانه) مستلقية على ركبتها، رأسها مستسلم بين راحتي يديها الناعمتين مثل طلوع النبات الأوّل من قاع التراب.
غيّرت (سلتي) نَظْم تنفّسها، كي يزداد أثر الصدى داخل الكهف، في هيئة إشارات لـ (كالو) تُعلِمه بذلك أنّها لم تنم بعد. بدوره (كالو) أطلق الإشارات ذاتها، وأربكَ إيقاع زفراته. عاودت (سلتي) الكرّة، شهقت وزفرت بإيقاعٍ أسرع وأعمق، متحيّنةً نَظْم أنفاس (كالو) الذي وهبها الجسارة كي تدفع سؤالاً تدحرج في الظلام وسقط في قاع أذنيه:
– لم تنم بعد يا (كالو)؟
– وكذلك أنتِ يا خانم.
– هل ستعود إلى (ماردين) فيما بعد؟
– هكذا وعدتهم.
تُعيد (سلتي) أنفاسها إلى عهدها الأوّل، وتستودعها الطمأنينة بعد أن قبضت على طرف حبل الكلام مع (كالو)، وصارت توجّه رأسها صوب مجرى الحبل ذاك كي لا تتوه عنه. سعى كلاهما إلى الحفاظ على ركن قعود الآخر داخل الظلام؛ إذْ قبض كلٌّ منهما على موطن صدى صوت الآخر.
– كنتُ أودّ التحدّث إليك بشأن أمور لا أرغب بأن تسمعها (عَيشانه).
– حاولي أن تنامي يا خانم، سنتحدّث فيما بعد.
– هل تشعر بالنعاس؟
– كلّا، لكن الأفضل أن تتوافق لحظات نومكِ مع لحظات نوم (عَيشانه) كيلا تشعر بالوحدة عندما تستيقظ.
– أخشى أن تفترسها الوحدة الكبيرة يا (كالو)، لا همَّ لي سواها الآن.
– اهدئي الآن يا خانم، لا تفكري بكل شيء دفعةً واحدةً كيلا تتعبي.
– وهل تستطيع ذلك؟
– الرجال أمرهم مختلف عن النساء يا خانم، هَمُّ حمايتكما الآن يستحوذ على كامل عقلي، هَمُّ النجاة بكما من كامل الشرور.
– اسمعني جيّداً يا (كالو)، حين نصل، خبّئ عن الناس قصّتنا، ونسبنا، وديننا.
– وكيف السبيل إلى ذلك؟
– فكّر الآن بروايةٍ واحفظها جيّداً كي ترويها فيما بعد للناس حيث نصل.
عادت أنفاس (كالو) إلى الاعتباط، وتسارع صدى القفص الحجريّ حوله، كأنّه تعثّر بكلامٍ لم يفهمه.
– لستُ ماهراً بتأليف الروايات والقصص يا خانم.
– أرجوك فكّر، وما نفع هروبنا إن علم الناس بأمرنا في مكان آخر، إذاً، كان حريّاً بنا البقاء في قريتنا بـ (ماردين) يا (كالو)، ابحث عن قصّة.
توقّف نَظْم الأصداء لحظات قصيرة إلى أن لكمت (سلتي) مجدّداً صمت المكان عبر بحّة صوتها المرتعشة:
– إذاً تظاهر بأنّك أصمّ، هكذا تنجو بنفسك من أسئلة الرجال حيث نصل.
– فكرة صائبة، لكنّك وحدك ستحملين أثقال سرد القصص وخلق الإجابات هناك.
قال بعد صمتٍ طويلٍ. ظنّت (سلتي) أنّه يتدرّب.
– لا عليك يا (كالو)، النساء لا يسألن عن الدين والأنساب مثل الرجال، فقط تظاهر بأنّك زوجي.
حطّ الصدى مجدّداً مثل طائرٍ وافدٍ مشبعٍ بأثر السماء. استحوذ الشرود في الماضي، والحاضر، والمستقبل على كليهما. هناك، داخل بطن الكهف المغروس في سلسلة جبال (ماردين) المطلّة من جهتها الأُخرى على سهول شاسعةٍ منثورة عليها القرى الصغيرة، ومضارب البدو الكرد، ودوابّهم، هناك على تلك السهول ستُروى القصص الجديدة لمواربة القصص القديمة، هل يولد المرء ليحفظ فينسى ويختبئ؟

* مقطع من رواية (نساء السل) _ دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع – 2022.

Datenschutzerklärung

WordPress Cookie Hinweis von Real Cookie Banner