(III) نساءُ السّل
أدارَ القرويّ رأسه صوب (عَيشانه)؛ إذْ بسطَ اللّجام، وأخمَدَ حوافر الفرس المسجورة، وأخرج السوط من مرمى عينيها، فنالت الطمأنينة وحمحمت. مرّرَ عينيه على الطفل المنساب مع السكون كجناح فراشةٍ مبلّلةٍ، راقب صدره، يعلو ويهبط بنَظْم سريع، قبض على السَكينة وعلم بأنّه لم يمت بعد، وبنبرةٍ متلعثمةٍ قال:
– لقد وصلنا إلى تل حلف.
ومدّ يده نحو جرّة الماء كأفعى تلج كومة قشٍّ عظيمة.
رفعت (عَيشانه) رأسها، فخرج طفلها من مرمى نظراتها، كانت تلك هي المرّة الأولى التي ترفع فيها رأسها منذ ركوبهم على ظهر الدرب الترابيّ صباح ذلك اليوم. قفزت من العربة. حمل القرويّ الطفل على زنديه، وحرص ألّا تلمس أصابعه جسده الذي أصبح ملوّناً إثر الحروق.
– الطبيب، الطبيب.. الطبيب.. الطبيب.
بصوت جهوريٍّ كأنّه ينادي على ضائع وسط زحام لا نهائي، كرّرَ القروي بالعربيّة كلمة الطبيب، ما إن سقطت نظراته على مجموعة رجالٍ سُمر البشرة يكسو الغبار وجوههم فبدوا كأنّهم عجائز يرتدون الزي العربي. سرعان ما اقترب منه هؤلاء العمّال حاملين معاول وأدوات الحفر. حاموا حول القرويّ الذي تسلّق التلّة قبل (عَيشانه) و(كالو)، وفتحوا له ممرّاً وتناثروا على جانبيه يسلّطون نظراتهم على الطفل الذي أخرجه أثر الحريق من ملامح الآدميّين. نهض رجُلٌ عن كرسيّه قبالة باب الخيمة المسدول، طويل القامة مرتدياً سروالاً قصيراً، ويعتمر قبّعةً مصنوعةً من القشّ كبيرة حوافّها تظلّل وجهه البرونزيّ المتشقّق كأطراف السلاحف. هرول نحوهم.
بقي (كالو) خارجاً منتصباً على باب الخيمة، فيما امتدّ ظلّه نحو الداخل. حمل الطبيب الطفل الذي فقد القدرة على البكاء، فاستُبدِلت حالة التعبير عن الألم لديه بشهقات سطحيّةٍ وقصيرةٍ، مدّده على السرير، وتفحّص جسده العاري، وقعت عيناه على أثر حساء العدس المتيبّس المختلط مع أثر الحروق، والدم، والألوان التي خُلِقَت في الطريق. عادت (عَيشانه) إلى التمتمة همساً، تراقصت شفتاها من شدّة التلاوات كجناحي فراشةٍ قُرب سراجٍ مسجور. رفع الطبيب ستارة الخيمة الجنوبيّة، فترجّل الضوء من السماء، وَهَبَّ والجاً المكان كأطفال يدخلون ركناً للمرّة الأولى. حمل مشرطاً حادّاً مثل لسان المظلوم، ومقصّاً قصيراً مثل يديّ المظلوم، مسحهما بقطعة قماشٍ بنيّة اللّون؛ إذْ بلّلها بسائلٍ لا لون له. قصَّ شعره، سرعان ما عاد الطفل من موطن السكون إلى البكاء، طلب الطبيب من القرويّ أن يهدّئ حركته، فنظر القرويّ إلى جسد الطفل ليستطلع النقاط التي سلمت من بطش الجمر والحساء كي يقبض عليها لتهدأ حركاته. قام بتنضير الحرق والفقاعات، وأزال الأنسجة الميّتة، حتّى ظهر الطفل كأنّه طائرٌ أُقتُلِع ريشه عنوةً. رشَّ بودرة (البزموت) على الأماكن المحترقة في جسمه، وضمَّد بقطع شاشٍ غليظة رأسه، ونصف وجهه، وكلّ صدره، وبطنه، ويديه، وساقه اليمنى.
لم يكن الغروب قد نَثَر طيوره الحمراء على الموجودات بعد، حتّى هدأت الحركات على جسد الطفل، وغطَّ في نومٍ عميقٍ، وعادت شهقاته إلى عهدها الأوّل؛ إذْ لقمته أمّه ثديها بعد أن غطّته بشالها.
تناثر العمّال، وتفرّقوا، ودخلوا خيامهم المبعثرة اعتباطيّة الشكل والأماكن أسفل التلّة. على الكراسي المصنوعة من قصب الزلّ، قبالة الخيمة التي ينام فيها الطفل على سرير حروقه، جلس الجميع على نحوٍ دائريٍّ حول طاولةٍ صغيرةٍ موضوعة عليها كؤوس الشاي المشروبة: القرويّ، والطبيب، و(عَيشانه)، و(كالو)، ورجُلٌ ألمانيٌّ طويل القامة واللحية، ممشوق القوام، قال الطبيب بأنّه (البارون ماكس فون أوبنهايم) مدير هذه البعثة التي تستخرج الآثار. كرّرَ القرويّ سؤالاً يخصّ اسم مدير البعثة فيصحّحه داخل ذهنه، سرعان ما أجابه الطبيب:
– لا، فكلمة بارون مثلاً كالآغا عندكم، وليس اسمه.
بدورها (عَيشانه) كانت تتحيّن الفرصة فتمتلك الجسارة وتسأله عبر لسان القرويّ عن صحّة ابنها، لم يهمّها كلّ تلك الأحاديث، كانت تبدو كالتماثيل المنتشرة والمقلوبة في الأنحاء، مواظبةً على تصحيح موضع غطاء رأسها الأبيض، وتمرّر أصابعها بين الفينة والأخرى على غرّتها الشقراء المكشوفة، تنظر بريف عينها أحياناً إلى (كالو) المنهمك بمراقبة كلّ التفاصيل حوله، ممثّلاً دور الأصمّ على أكمل وجه. بعد أن عرف الطبيب بأنّهم جاؤوا من قرية (شورِك) سأل بعربيّةٍ ركيكةٍ القرويّ مرافق (عَيشانه) و(كالو):
– كيف عرفتم بأنّنا هنا، كيف عرفتم المكان؟
– لقد مررت من هنا قبل عام تقريباً عندما عدت من زيارة الأقرباء في (جبل الكرد).
تلعثم القرويّ، تردّدَ فلم يخبر الطبيب بأنّه يتاجر بالتبغ، ويمرّ كثيراً بمعظم أماكن وقرى هذه المنطقة المكتظّة بشيشان فرّوا من بطش الجيش الروسيّ في القوقاز، فجاء بهم العثمانيّون إلى هذه المنطقة، وأعادوا لهم إعمار مدينة (رأس العين)، التي كانت في العصر العباسي مركزاً تجاريّاً، ومحطّةً للقوافل، ومصيفاً للخليفة العباسيّ المتوكّل، ومركزاً لاستراحة صلاح الدين الأيوبي، ومقصداً لقادة معظم الإمبراطورات التي أفنت ودمّرت بعضها، تدميرها على يد المغول كان آخر محطّات فنائها.
همست (عَيشانه) بالكرديّة للقروي الذي سرعان ما ترجم كلامها، فهزَّ الطبيب رأسه، ابتسم، ظهرت أسنانه البيضاء القابضة على غليون أخرجه من فمه وقال:
– لا تقلقوا، سيعيش بالتأكيد، لم تكن الجروح خطرةً، بيد أنّه طفلٌ أشقر أبيض البشرة، لذلك ظهرت الحروق بذلك الشكل المروّع، ستبقون هنا ثلاثة أيّام، وبعدها سيقود الطفل العربة بكم إلى قريتكم.
أنهى الطبيب كلامه وتحدّث بالألمانيّة إلى مدير البعثة المتماهي مع صمتٍ مطبق. تراقصت شفاه (عَيشانه) مجدّداً، تمتمت بدعواتٍ بعد أن ترجم لها القرويّ كلام الطبيب الذي عاد إلى تدخين الغليون مثيراً دخاناً تحوّل إلى غيمةٍ صغيرةٍ بحجم غزالةٍ متأهّبةٍ بين القيام والقعود. دفعهم الطبيب إلى النهوض ودخول الخيمة، أشار إلى (عَيشانه) و(كالو) للوقوف بجانب (شكري) الطفل النائم في السرير الحديديّ، عدّل رأسيهما، وطلب منهما الابتسام، لم تبتسم (عَيشانه)، عدّلت موضع الشال فوق رأسها فبَرق شعاع النور على غرتها الشقراء البارزة مثل آلام المنفيّين. طلب منهما أن يُبقيا عيونهم مفتوحة، وهمَّ في العدّ من الواحد إلى ثلاثة، ترجمَ القرويّ لهما الأرقام الثلاثة إلى الكرديّة. اندفع صوت زرّ التقاط الصور في الكاميرا صوب أذني (عَيشانه)، فارتابت أن يوقظ طفلها النائم في فراش حريقه. قال الطبيب عبر القرويّ المترجم:
– ستبقى هذه الصورة إلى الأبد.
شردت (عَيشانه) في كلمتي: „الصورة، والأبد“؛ لم يسبق لها أن سمعتهما من قبل. حامت نظراتها حول صور أشخاصٍ معلّقة داخل الخيمة، خشيت أن تُعلَّق صورتها أيضاً على مرمى عيون الغرباء؛ عدّلت شالها من جديد وشبكت أصابع يديها بعضها ببعض، ونظرت إلى القرويّ كأنّها تطلب منه أن يترجم قلقها.
تحت سماءٍ تخفق فيها النجوم كأنّها أرانب، اشتعلت النيران في فرائها، خلدَ القرويّ إلى نومٍ عميقٍ على سريرٍ نصبوه له خارج الخيمة. بينما قضت (عَيشانه) كامل اللّيل جالسةً مقتعدةً كرسيّاً جوار رأس ابنها المتمدّد في السرير الحديديّ الطويل، كانت المرّة الأولى التي تشاهد فيها سريراً، تخرج بين الفينة والأُخرى ثديها خلسةً، فتعصره حتّى يخرج منه الحليب فتطمئنّ، وتدفعه مجدّداً تحت فستانها الأخضر الطويل، وتمسح قطرات الحليب الدافئة على معصمها الأيسر براحة يدها اليمنى. بعد أن اطمأنّت على صحّة ابنها، توجّست بحليبها، خافت أن ينضب إثر الهلع الذي نال منها، لذلك تناولت عشر حبّاتٍ من التمر، وكأسين من الحليب، ونصف رغيف غمسته في الزبدة التي تصنعها زوجات العمّال من البدو الذين جاء بهم (ماكس فون أوبنهايم) من منطقة (جبل عبد العزيز) بعد أن رفض الشيشان بقرى (رأس العين) العمل في التنقيب والحفر مع البعثة الألمانيّة؛ لاعتقادهم بأنّ الآثار تجلب النحس وتخرج الأشباح من باطن الأرض، فأعانه شيخ عشيرة عربيّة؛ إذْ وجد في الأمر سبيلاً ينقذ رجال ونساء عشيرته من الموت جوعاً في تلك السنوات القاسية الممتلئة بالجفاف، والأوبئة، والحروب. بدوره، وجد البارون الألمانيّ في رجال البدو هؤلاء ضالّته، لا سيّما أنّهم عملوا مقابل أجورٍ منخفضةٍ مقارنةً برجال المسيحيّين. سمعت (عَيشانه) كلّ تلك الحوارات التي دارت بين القرويّ وشابٍّ كرديٍّ طويل القامة، عريض المنكبين، حليق الشعر، مفتول العضلات، مرتدياً سروالاً فضفاضاً من الورك، وضيّقاً عند كاحليه، يشبه سروال البارون، حتّى ظنّته بادئ الأمر قادماً من ألمانيا معهم، قال بأنّه أحد حرّاس الآثار. في أثناء تناولهم العشاء البدويّ، أكلت (عَيشانه) رغماً عنها؛ إذْ توجّست بالحليب، حتّى إنّها سألت الكرديّ حارس الآثار:
– هل ثمّة نساء كثيرات هنا؟
سألته ذاك السؤال كي تستنجد بإحداهنّ إذا ما انقطع حليبها، كانت على وشك صناعة أمّ ثانية لابنها في سبيل بقائه سالماً. بقيت بجانب طفلها النائم.
* مقطع من رواية (نساء السل) _ دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع – 2022.