ذاكرة بالأسود والأبيض!
هي شغف البدايات. المعنى البكر لاكتشاف الذات، وتكوين الصداقات. الطعم الطازج لحكايات الحب الأولى. هي تفتح براعم ربيع العمر، قبل أن تلوحها الشمس، وتقسو عليها حرارة أشعتها اللاهبة!
هي شفافية بدء التكوين، قبل أن ترتدي الوجوه الأقنعة. الضحك الطليق.. الصاخب قبل أن يلوّث الغبار اندفاعاتها الواعدة!
هي الحلم.. قبل أن يدقّ الموت، بردائه الأصفر أبوابها. هي صفحة الآمال الناصعة، قبل أن تشحب ألوانها.
هي ذاكرتي المثقلة بمئات المشاهد التي حفرت في داخلي شروخاً لا تُنسى. لا أعرف إذا كانت تستحق البوح.. أم باتت ثياباً بالية، تنتظر غياب الجسد، كي تُطوى مع دفاتري العتيقة.
استيقظت من نومي قبل الفجر متعباً. لم أنم سوى بضع ساعات. تخللتها أحلام وكوابيس مزعجة. تذكرت قبل أن أنهض من فراشي الحائط الأزرق. يضجّ بأخبار الموت. كنت قد تجوّلت في شوارعه الافتراضية قبل النوم. لا أعراس، أو أفراح في بلادنا الحزينة. لا شيء سوى الموت.
تطفو على سطح المشهد. بين العام والخاص صور الدمار.. والأشلاء.. وسيول الدم.. ونعايا الأصدقاء. يتساقطون كأوراق الخريف.
تعبت.. تعبت من تقديم التعازي على الجدار الأزرق. تعبت من اللازمة التي أكررها : „لروحه أو روحها السلام والسكينة“. أتخيل جنازتي. أتوق لأن أمشي في جنازات الأصدقاء. أتوق لأن أعبّر بواقعية، ليست افتراضية عن حزني وتعاطفي لأحبائهم. أتوق إلى سماع تلاوة القرآن في بيوت العزاء. لتراتيل كنسية في جنّاز. لأكاليل الورود، ولون الآس الأخضر على القبور. قبورنا التي باتت تتوزّع على مساحة الكرة الأرضية!
انثالت تداعياتي. تذكرت مقولة والدي: “ الشمس باتت على رؤوس الجبال.. برهة وتغيب“. ربما لأنني أمسيت أقرب إلى الغياب، تداخلت الصور في ذاكرتي، كأنها شريط سينمائي دون “ مونتاج „. تتالت الصور بالأبيض والأسود: صدى ضحكات. أنين صرخات طفل وسط الركام. استغاثة امرأة ثكلى. وجه أمي بحزنها ولهفتها. رائحة غسيلها. وجوه نساء مررن في حياتي حبيبات وصديقات. نقاشات صاخبة مع أصدقاء أو رفاق. مواقف جارحة، وأخرى مفعمة بالدفء والمشاعر النبيلة.
استعادت شاشة ذاكرتي مرسماً على أحد أسطحة بيوت دمشق القديمةـ احتضن صخبنا وأحلامنا مطلع السبعينات. كم من الوجوه، والرموز اليوم صعدت تلك الدرجات الخشبية التي كانت تئنُّ وتصطك تحت ثقل خطواتهم، فتهبط قلوبهم، قبل أن يتنفسوا الصعداء في نهاية السلّم! كنا فنانين شباب، مشاريع أدباء وكتّاب وصحفيّون، صعاليك حالمين بمشاريع الحب والتغيير.
تداخلت الصور والمواقف في رأسي، وازدحمت مع خربشات على الحيطان الرمادية في زنازين الخوف والأحلام داخل عتمة جدرانها الضيقة…. ملاحقات الأمن، لحظات اعتقالي الثقيلة. فترات التحقيق والتعذيب والتنقّل بين أقبية المخابرات والسجون.
أليس ما يجري اليوم هو من ذاك الذي حدث في الأمس. لماذا ظلّ الصمت يغلّف التجارب السابقة، بكلّ ما لها، وما عليها ؟!
هو الخوف. الخوف المزمن الذي عشّش في قلوبنا، وقلوب كل السوريين أمام القمع العاري الذي طال كلّ جوانب حياتنا. لم يكن من السهل علينا، بعد تجاربنا المريرة مع النظام، أن ندفع الثمن مرّةً أخرى.
بعد اندلاع الثورة، بات الباب مفتوحاً لكي ندلي بدلونا، لكن عقبة جديدة ظهرت. تحوّلت البلاد كلها إلى معتقل كبير. يجري فيه كل أشكال القتل والتعذيب والجوع والحصار، على مرأى ومسمع العالم أجمع. صرنا نخجل أمام أهوال الجرائم التي تُرتكب في طول البلاد وعرضها، من البوح بآلام تجاربنا السابقة، التي بدت هزيلة ً أمام تراجيديا الموت الراهن.
بالتأكيد، صمت الأمس أدّى إلى أهوال اليوم. ليس صمتنا فحسب، بل صمت المجتمع الذي لم يحرّك ساكناً. بعد خروجنا من المعتقلات في التسعينيات، أصبحنا مثل الوباء. يخاف الآخرون الاقتراب منه، منا. عشنا عزلتنا، وتفككنا. كلٌّ راح يبحث عن مصيره الفردي. يحاول ترميم ما تبقى من حياته. لسنا أبطالاً. قدراتنا تتفاوت بين واحد وآخر. بعضنا حافظ على نقائه، وظلّ قابضاً على الجمر رغم صمته. البعض الآخر انغمس في تيار الحياة العريض، وراحت تعصف به الأهواء والمنافع.
هي الحياة.. هكذا. تدور دورتها الأبدية. الثابت، الوحيد، المؤكد، أن زهر الكرز الأبيض سيتفتح في شمس بلادنا، بعد قيامتها، ولا بدّ أن يثمر : فرحاً، حبّاً، حريةً وكرامة. يوماً ما.