العزيزة وداد.. لماذا وكيف لم نلتقِ من قبل؟!
نحن من المكان نفسه، لا أعني البلد، أعني المدينة نفسها. لذا يخطر لي هذا السؤال الذي قد يبدو غريباً: لماذا وكيف حدث أننا لم نلتقِ من قبل هناك؟!
غادرتُ حلب قبل عقد ونصف لسبب معكوس عن السؤال أعلاه. أذكر كيف اتخذتُ القرار مساء ذلك اليوم؛ كنت قد خرجت من البيت مقرراً الذهاب إلى المقهى مشياً، لكنني لم أتخذ القرار لأن أفضل الأفكار تأتي أثناء المشي؛ هذه بدورها فكرة فلسفية قد لا يليق أن أخوض فيها وأنا جالس الآن أكتب.
في طريقي إلى المقهى، بعد حوالى 700 متر، صادفتُ حبيبة قديمة، فتوقفنا وتبادلنا المجاملات، وأغلب الظن أن الحديث كان ليصبح أقل تكلفاً لولا عنصر المفاجأة. بعد خمسمائة متر تقريباً، أصادف المرأة التي كنا أنا وإياها قد افترقنا قبل مدة قصيرة، ولا أدري ما إذا كان من حسن الحظ أو سيئاته أنها لم ترني، فصار بوسعي تحاشي أن نلتقي وجهاً لوجه؟
تابعت مشيتي إلى المقهى لا تفارقني فكرةُ أن المدينة ضيقة جداً، وبشيء من المبالغة كنت أقول لنفسي أن مشواراً من ثلاثة كيلومترات، هي المسافة من البيت إلى المقهى، يكفي لأصادف خلاله كل من أعرف من نساء ورجال؛ من أصدقاء وأقارب وربما مخبرين أيضاً. إذاً، لماذا وكيف لم نلتقِ من قبل، بصحبة أصدقاء مشتركين، في هذه الكيلومترات الثلاثة؟
وداعاً حلب؛ قلت لنفسي. الوجهة ستكون إلى دمشق، إذ لم يكن وارداً أن أفكر في الهجرة إلى مدينة أصغر. عشية مغادرتي إلى دمشق، قلت لأمي وأبي أنني مسافر. لم يكترثا بالخبر، فقد كان من المعتاد أن أسافر إلى دمشق ومن دون أن أخبرهما، فضلاً عن اعتيادهما الدائم على غيابي. أضفت أنني مسافر لأقيم هناك، لأفاجأ بوجوم من وجه أبي ودموع من أمي. لقد فهما نيتي بأقوى مما حكيت، وشعرت لحظتها أنهما تقدما في السن، وأنني أغادر قبيل الوقت الذي سيحتاجان فيه إلى وجودي إلى جانبهما كان غيابي عنهما، وعن بيت العائلة، هو الأصل منذ أصبحت في سن الدراسة الجامعية، حتى أن تعبير „بيت العائلة“ يبدو غريباً عليّ. ربما لهذا لم نلتقِ، أنت وأنا، هناك أيضاً في „بيت العائلة“.
لاحقاً، في اتصال مع أمي، ستحدثني خالتي _التي صادف أن كانت في زيارة لها_ أنها كانت متأكدة من عودتي للعيش في دمشق، لأن من نشأ على مائها لا بد أن يعود إليها. أعجبتني فكرة العائد أكثر من فكرة المهاجر، ولو أن الزمن الذي يفصل بين العودة وأيام الطفولة الغابرة قرابة الثلاثة عقود ونصف.
أمي لم تتحدث معي عن مكان الطفولة ذاك، ربما كان الأمر بالنسبة لها أنني غادرتُ جرياً على عادتي. مراتٍ مازحتني بالقول: أنت لم تصبر في بطني تسعة شهور. كانت تعني مغادرتي بطنها في نهاية شهري السابع كجنين، وهكذا أبدو كأنني كنت متململاً ومستعجلاً الخروج من مكاني الأول. لدي رهاب الأماكن المغلقة، وقد يتعلق ذلك بصعوبات عشتها كجنين، صعوبات عجّلت بمجيئي إلى العالم. لكن، أليس الرحم هو مكاننا الأول؟ أليس هو مكان ما قبل الذاكرة، ومع ذلك يحلم كثرٌ من غير وعي أو دراية بالاستقرار وراحة البال التي لا تتوفر سوى للجنين؟ أليس هذا هو الفردوس المفقود لكثير من الأبناء؟ وهل يخطر ذلك لأمهاتهم؟
ترتبط القرابة في موروثنا بالرحم، وهناك تعبير عربي شهير هو „صلة الرحم“ كنايةً عن التواصل مع الأقرباء. يخطر لي أن المكان يأخذ في ذاكرتنا مكانة تشبه تلك المكانة الرمزية للرحم، هناك رابطة تشبه القرابة عندما نتحدث مثلاً عن „حلبية“ أو „شوام“. قبل سنوات التقيت في برلين بمحمد „زوجك“، وربما كنتما حينها تبدآن علاقتكما أو خطوبتكما، فهنأته ومازحته بأنه صار „صهرنا“! كنتُ أتحدث، ولو مازحاً، باسم حلب التي انتمينا إليها يوماً. قبلها بسنوات كان محمد قد عبّر لي عن سعادة مشابهة، كان وقتها ينطق باسم بانياس التي صرتُ آنذاك صهرها!
أعود إلى رهاب الأماكن المغلقة؛ بسبب إصابتي به كنت أخشى الاعتقال، وأن يُزجّ بي في زنزانة ضيقة جداً، سيئة التهوية. الآن، عن بعد، أفكر كم تحمل هذه العبارة من المكان الذي اسمه سوريا. بالتأكيد هناك أمكنة أخرى شبيهة، يخشى فيها الناس الاعتقال بسبب آرائهم المناهضة للسلطة، وربما يكون فيها مصابون بالرهاب ذاته ويفهمون بدقة ما أعنيه.
آمل ألا يكون لديك هذا الرهاب.
في الواقع، يخطر لي أن مَن عاشوا في ظل الاستبداد ينبغي لهم جميعاً أن يكونوا مصابين به، يجب أن ينتابهم شعور حقيقي بأنهم على وشك الاختناق، وبأن المدن والبلدات والقرى التي يعيشون فيها تضيق عليهم، ثم تضيق أكثر فأكثر حتى تضغط على أعناقهم!
لا بأس في قليل من المجاز كما فعلت في العبارة الأخيرة، إلا أنه للأسف الشديد لا ينتمي فحسب إلى خيالاتٍ وأوهام، بل لعله من الواقعية الفظة أن نقول أن الأماكن تضيق حقاً في البلدان التي يحكمها الطغاة. الزنزانة الضيقة جداً، سيئة التهوية، هي المكان الذي يشتهيه الطاغية لنا، لذا هو يحوّل كل الأمكنة إلى ما يشبه نموذجه المحبَّب.
صار شائعاً لدينا القول أن حكم البعث، وحكم الأسد تحديداً، قد بنى المدارس مثلاً على شكل السجون، وفي العهد نفسه راحت البيوت البائسة الاضطرارية للفقراء تشبه السجن أيضاً، فوق الارتفاع الباهظ لثمنها. ليس هذا فقط ما أعنيه، ما أود قوله أن الطغاة يفقرون حياتنا عموماً، ويجعلون الأيام رتيبة، لا يحدث فيها شيء مهم، وليس هناك انتظار لشيء مهم. بهذا المعنى يصبح المكان ضيقاً، ضاغطاً على العنق، إذ ما فائدة المساحة الواسعة والعدد الضخم من السكان إذا كان ذلك كله مجرد تكرار بليد؟ من الممكن اختزاله بالكيلومترات الثلاثة التي تحدثتُ عنها في البداية؟
قبل خمس سنوات راسلتني شابة ألمانية اسمها كلارا، تعدّ أطروحة دكتوراه في جامعة أوكسفورد عن الموسيقا في حلب، واختارت مقالاً لي عن حلب ليكون مقدمة لأطروحتها. التقينا في باريس، ومن ضمن حديثنا أشارت إلى جزء من المقال ذكرتُ فيه المغني الإسرائيلي السوري الأصل موشيه إلياهو، المعروف بأدائه الغناء العربي الكلاسيكي. قالت أنها بسبب عبارتي تلك سافرت إلى تل أبيب لتلتقي به، لكن تعذر اللقاء بسبب حالته الصحية السيئة.
كانت كلارا، لإنجاز أطروحتها، زارت العديد من البلدان، والتقت بالكثير من المشتغلين والمختصين بالموسيقا الحلبية؛ لحسن الحظ أنها قادرة على فعل ما لا يستطيع سوري أو سورية فعله بهذه السهولة. لنتخيَّلْ، ليس الآن فقط بل قبل عشرين أو ثلاثين عاماً، كم من البلدان سيمنح السوري فيزا للدخول إلى أراضيه؟ الطاغية الذي حوّل بلدنا إلى سجن جعل لنا وصمة الهاربين من السجن، والذين بمجرد حصولهم على فيزا سيبقون ولن يعودوا إلى بلدهم. لم يعد من المرحّب بنا في أية سفارة، لم يعد بلدنا وحده الضيق، بسبب ذلك البلد-السجن صار العالم ضيقاً علينا أيضاً.
ما سبق لا ينبغي أن يكون قدراً محتوماً علينا كسوريين؛ لدي مثال معاكس سأرويه لك: كنت في عام 2010 قد بدأت التفكير في أن دمشق ستضيق عليّ قريباً، وفي أن الكيلومترات الثلاثة التي تركتها ورائي في حلب ألاقيها هنا، وإن كانت المسافة بين بيتي والمقهى الذي أرتاده مع أشباهٍ لي أطول مما كانت عليه هناك. لن تمضي شهور حتى يتسع المكان بأكمله؛ انطلقت المظاهرات التي تنادي بالحرية هنا وهناك، في دمشق وفي درعا وبانياس، إلى أن وصل عدد المظاهرات في وقت واحد إلى ما يقارب ثمانمئة مظاهرة، في ثمانمئة مكان.
عندما أقول أن المكان اتسع حينئذ فأنا لا أتحدث على سبيل المجاز؛ أتحدث عن الشام التي لم تعد مجرد مسافة بين بيتي والمقهى والأحياء القديمة التي نرتادها كسوّاح، أتحدث عن الشام التي صارت „الميدان“ وركن الدين وداريا ودوما وحرستا، وعن سوريا التي فيها مئات المدن والبلدات التي راحت تستيقظ من رتابة الصمت القديم. كان البلد يزداد رحابة مع كل مكان جديد ينضم إلى القائمة، وكان الناس يكتشفون أنهم ليسوا وحدهم، ولا يعيش كل منهم في ثلاثة كيلومترات فحسب.
لقد رأى العالم على شاشات التلفاز كيف قوبلت تلك المظاهرات بعنف بلغ الوحشية، ما يعفينا من الخوض فيما آلت إليه الأوضاع. أتوقع أنه كان بين ملايين المتظاهرين والمتظاهرات آلاف ممن لديهم رهاب الأماكن المغلقة، لكنهم تجاوزوا خوفهم من الاعتقال في زنازين ضيقة سيئة التهوية لما رأوا البلد يتسع بهم وبغيرهم، قبل أن يخسر كل منهم الكيلومترات القليلة التي كانت له، قبل أن تبدأ رحلة الشتات الكبير.
غادرت الشام بعد أن صارت خطراً عليّ كمطلوب للاعتقال، وازدحمتْ مثل باقي المدن والبلدات بالمخابرات والعسكر والشبيحة. غادرت متخفياً إلى لبنان، ثم بعد شهور قليلة إلى فرنسا. أكتب لك من باريس، ولست فيها زائراً كما تمنيت أن أفعل قبل زمن طويل. في ذلك الزمن البعيد كانت قدماي في سوريا، ورأسي وأفكاري يجولان العالم. الآن، قدماي في باريس، أما رأسي فأخشى أنني نسيته هناك، في ذلك المكان الضيق. أرجو ألا تكوني قد فعلتِ ذلك أيضاً.
محبّات
عمر
باريس 06.09.2022