الكتابة في زمن الحرب
سعاد الخطيب
تُسرق ثورة تطالب بالحرية والكرامة، وتحل -بدلًا عنها- حرب شرسة. لكن الحرب مثلها مثل سلعة، تنتجها وتروج لها وتجني أرباحها الدول العظمى، شرط أن يكون مصدر المواد الأولية لهذه السعلة محليًا؛ كي تنخفض التكلفة وتزيد الأرباح
.
الحرب هي الحرب، لو نشبت حرب في أكثر الدول تقدمًا، سنرى النتائج نفسها التي رأيناها في سورية، مع اختلاف الوسائل والحجج.
أرى الكتابة في مواجهة عنف كهذا، هو التمحيص في “المواد الأولية المحلية” التي شكلت مكونات الخلطة السحرية للحرب.
في الحرب لا أستطيع الحديث عن العنف الموجه ضد النساء، من دون الحديث عن الرجال والأطفال، فالبرميل لا يصطفِ النساء عند سقوطه، ولا بطش داعش يميز بين الجنسين. لا يمكن النسويين “مؤيدو الحركة النسوية” إذن أن يعزلوا المرأة كعنصر مشوّق للبحث، كما يشجع عليه الإعلام الراعي الذهبي للحرب، للّعب بذاكرتنا، والذهاب بنا إلى تأييد سياسة الدول العظمى في سورية، بشعار أن لا صوت يعلو على صوت المعركة ضد الإرهاب، المتمثلة في محاربة داعش.
في الحرب لا أستطيع الانحياز للأرقام في لعبة الأقليات والأكثرية. داعش تقتل الأقليات والنظام يقتل الأكثرية، والضحايا تُزيد من نسبة إحدى المكونات في المنتج “الحرب” .
الاستعمار الجديد، كما سلفه القديم، ينسج لنا حكاية جديدة مفادها أن الإرهاب هو حقيقتنا، وهو جزء من خصوصيتنا التاريخية.
من جهة أخرى، التمحيص في “المواد الأولية المحلية” يعني المكاشفة، والحديث عن الذهنية إياها التي كانت تتبنى جرائم الشرف سابقًا، سواء بالفعل أم بتبريره، أم بالتزام الصمت والتقليل من أهمية الحدث. فقد كانت تنفذ جرائم الشرف -أحيانًا- أمام الملأ بمنتهى الوحشية، وكان جمهورها أكثر تنوعًا من جمهور داعش الحالي؛ حيث الجامعيين ومن كانوا يُحسبون على اليسار متورطين في ذلك أيضاً.
التمحيص في „المواد الأولية المحلية“، يعني أن ترى ذاكرتك، منقوعة في اللون الكاكي. تمادى الكاكي في حياتنا الطلابية، ولاحقنا وصادر آراءنا، حتى أصبحت مدارسنا وجامعاتنا، ثكنات عسكرية. لقمة العيش أيضاً مغمسة بالكاكي، بعد أن تمت عسكرة المجتمع السوري برمته. التجويع والعنف، واعتقال الأطفال والمجازر، كل ذلك لم يكن وليد هذه الحرب، وداعش لم تأت بجديد، إنما أخرجت ما كان يمارسه النظام في أقبية المعتقلات والمناطق المهمشة إلى العلن.
التمحيص -أيضًا- في “المواد الأولية المحلية”، يظهر لنا كيف ربّى النظام بذرة الإرهاب ورعاها، وكيف تفشت معاهد تحفيظ القران. هناك بعض الجوامع في دمشق كانت بمنزلة مؤسسة دينية، تحتوي مدرسة داخلية، مستقطبة كل الجنسيات من أنحاء شتى من العالم ، كحال جامع أبو النور.
الكتابة في زمن الحرب تعني لي الآن لَمّ شتات الذاكرة والهوية بعد أن دُمرت البنى التحتية تدميرًا كاملًا وممنهجًا، وهُجّر الملايين. إنها كذلك تفضح سرقة جثامين الخسارات، كما فضحت سرقة النظام لجثامين الثوار السوريين. إنها الكتابة التي تلم شمل الذاكرة والهوية في بعديهما الإنساني، الإنساني وحسب، كما مارسها إدوارد سعيد، ومحمود درويش.
أنا لست مأخوذة بالبلاغة اللغوية ولا العاطفية، ولا أدّعي التفاؤل بمشروع كهذا، في المناخ الثقافي العربي الحالي. فلاحقًا، ربما تقدم لنا الدول العظمى الراعية للحرب، مقترحا ما أقرب إلى جائزة الترضية، وهي “تصفية الديكتاتور أو تنحيه”، الذي سيهلل المثقفون المستقطبون من مموليهم في أعقابها بالانتصار. ولكن ما مصيرنا بعد أن جرّبنا ما جربناه من هويات أيديولوجية ودينية، وبعد هذه السقطات المأساوية في تاريخنا؟