داخل الخراب العظيم
دخلنا دير بعلبة في الطريق إلى قلب حمص، قادمبن من الشمال، بعد خمس سنوات من حرقة التهجير. سيارة التاكسي التي أقلتني مع شاب وفتاتين جمعتني بهم الصدفة في مركز انطلاق الحافلات بحماه، عبرنا عشرات الحواجز وخضعنا للتفتيش مرات ومرات، لنتوقف أخيرا وطويلا عند البوابة الشمالية لحمص، الحاجز هنا أشبه بنقطة حدودية بين بلدين لا محافظتين تتداخل اراضيهما كما سكانهما، حماه وحمص شقيقتا العاصي والدم.
تفرّس الجنود المدججين بالسلاح بوجوهنا المذعورة بحثا عن ضغينة ما تحت سحناتنا الباهتة التي جهدنا لجعلها محايدة تماما كوجوه الموظفين الدوليين.
سأل العسكري وهو يلم بطاقاتنا الشخصية لتمريرها على الفيش من أين أتينا والى أين نتجه، قبل أن يغيب حوالي ربع ساعة، بينما رفاقه ينبشون السيارة والامتعة بحثا عما لا يحمد عقباه، لحظات تقطعت فيها أحشائنا رهبة، دون أن تتوقف شفاهنا عن تمتمة صامتة: „يا رب .. يا رب“
عاد العسكري بالبطاقات، وكلما نطق اسم أحد الركاب هوت القلوب كالدجاج المذبوح، بانتظار سماحه للتاكسي بالعبور، الّا أنه تعمد اللعب بأعصابنا متلذذا بقلق تفضحه عيوننا، مجريا تحقيقا سريعا عن الصلات التي جعلتنا نستقل معا هذا تاكسي ومع هذا السائق تحديدا، لم يكن هناك أي صلة سوى الرغبة بعدم تضيع الوقت بانتظار امتلاء الحافلة ذات الأربعين راكبا الذاهبة من حماه الى حمص، وشاءت الصدف أن نتفق على اختيار سيارة تاكسي كانت متوقفة في مركز الانطلاق. قال السائق أنهم ركاب أخذتهم من الكراج، لا أحد فينا يعرف الآخر سابقا.. بدا العسكري غير مقتنع بما قاله السائق، تعابيره نمت عن تشكيك وريبة وهو ينقل نظره بين وجوهنا ليطابقها على الصور الشخصية في الهويات.. الدقائق كانت تمرّ بتثاقل مميت، حبسنا خلالها الانفاس، وما أن اشار بيده آمر السائق: تحرك .. حتى انطلقت من الصدور زفرات الخلاص، ارتدت معها ارواح كادت أن تزهق.
كاليتيم المشتاق لحضن أمه، تاهت سيارتنا في شوارع حمص. عبثا بحثت عن ظلال أشخاص أعرفهم تقاسمت معهم العيش في هذه الأمكنة. لم أعثر لا على الأشخاص ولا على ظلالهم، حمص الحانية الوادعة أم الفقير غدت ركاما على مد النظر. أبنية تداعت أسقفها متكدسة فوق بعضها، كتورتات هائلة الحجم داستها أقدام وحوش عملاقة.
أحياء كاملة سويت بالأرض، كتل اسمنتية معلقة بأسياخ حديد تطوّحها وقائع الفجيعة، نوافذ مخلعة، جدار مطبخ أكل القصف الجوي جدرانه الأخرى تاركا ظل أم تحضر وجبة الغذاء لأولادها العائدين من المدرسة، شبح دمية يلوح من تحت طبقات الغبار، دفاتر وكتب مدرسية يعبث بمزقها الهواء، بقايا ملابس عالقة ترفرف كروح المحتضر، أثار دماء جافة ما تزال على الحجار، محال تجارية منهوبة لا أثر فيها لباعة شطار وزبائن مماحكين، أحياء خلت من أهلها. وحده أنين المحاصرين يأتي من عمق أرض مثقلة بالفجيعة، حين ينبت عشب الغياب في منازل أحالها الطيران الحربي إلى قبور حبلى بجثامين أصحابها.
بالأمس كانوا هنا، بالأمس خرجوا بعد عقود من ليل بهيم يطلبون الحرية والعدالة، وبالأمس صاروا عجين من لحم وتراب تطمئن إليه العقارب والأفاعي، وتروي حكاياته الحزينة زهور برية وأشجار دفلى أسكرها الدم المسال، فمكثت تهذي وتنوح: بأن ربيعاً مرّ من هنا!!
لماذا كان كل هذا ؟!!
شحار يطلي وجه حمص بسواد يعمى العين، دمار يفوق القدرات البشرية على الاستيعاب، إذ يتعطل البصر وتستنفر الذاكرة، مستحضرة أنفاس الراحلين خارج المدينة، خارج البلاد، خارج الحياة. كانوا هنا وأصداء أصواتهم تشبع الفضاء بحيوية تميز حمص المنسوجة من طرائف وضحكات، من طيبة وكرم، من حب ووله، هوية حمص التي لا يعرفها إلا من عاشر أهلها، و شرب من ماء نهرها وأكل من خيرات ريفها، ومارس طقوس أعياد الربيع فيها؛ من خميس الضايع وخميس الشعنونة وخميس المجنونة ومرورا بخميس القطاط وخميس النبات وخميس الأموات وصولا الى خميس المشايخ. أعياد تحتفي بالطبيعة ورثتها الحضارات المتعاقبة على سوريا كل واحدة عن الأخرى واضفت عليها شيئاً من روحها، منذ فجر التاريخ الانساني وحتى غروبه في بلادنا. من الآرامية الى اليونانية فالرومانية المسيحية ثم الإسلامية العربية والإسلامية العثمانية، لتصل تلك التركة للحضارات الى عصرنا خلاصة مكثفة لمزيج حضاري نادر في ديمومة حيويته، وتكاد تكون حمص المدينة الوحيدة التي تمسكت به كجزء من تميز هويتها كمدينة مرحة، قبل أن يؤول معظم تلك الأعياد الى الذاكرة التراثية.
أعياد تظن لطرافة أسمائها أنها قصيدة ضاحكة، لكنها ليست كذلك، بل هي أيام مكرسة للاحتفاء بالربيع والحلاوة، ولكل خميس منها معنى وطقس خاص. إذ تمتد على سبعة أيام خميس من شهري شباط ونيسان، بالتزامن مع الصوم الكبير المسيحي الشرقي. وأحلى تلك الأعياد خميس الأموات، والذي هو أيضا خميس الأسرار بالتقويم المسيحي الشرقي، ويسميه الحماصنة تحببا „خميس الحلاوات“ وهو يوم يحيه كل الحماصنة مسلمين ومسيحيين، بإقامة الصلوات لراحة نفوس موتاهم ونثر باقات البيلسان على قبورهم وتوزيع الحلاوة مجانا طلبا لدعاء بالرحمة.
في خميس الحلاوات يتفنن الحماصنة بصناعة أنواع مختلفة من الحلويات موادها الأساسية (سكر وطحين وسمسم) حلاوات طيبة المذاق قليلة التكاليف ينعم بأكلها الفقير قبل الميسور منها حلاوة؛ البشمينة و الخبزيّة و الشوشيّة والسمسمية والرّاحة، وبلاط الجنة، وغيرها … من حلاوات تعرض في هذا اليوم بسخاء منقطع النظير أمام المحلات، تغازل أنظار الأطفال بأشكالها المخروطية الضخمة ذات اللونين الأبيض والأحمر، يشتريها الأهالي بكميات كبيرة، لتوزع مع الخبز والبيض على القرّاء (الذين يتلّون القرآن) والفقراء عن روح الأموات.
ما من حمصي لا تحتفظ ذاكرته الطفولية بصور زاهية من خميس الحلاوات، التي تضفي على مناسباتهم الحزينة طعما من السكر. ولعل هذا هو سرّ حمص البهية السخية في أشد لحظات ألمها. سرّ؛ هتكته الحرب، بعد أن أتت خمسة عقود عجاف من عمر سوريا على تاريخ المدينة وثقافتها وعاداتها وطقوسها، لتبقي لها من خميسيات ربيعها فقط خميس الأموات !! فقد آل مما آل إلى الماضي المنسي خميس التايه؛ يوم يختلط الشتاء بالربيع، وخميس الشعنونة؛ يوم اعتدال الطقس، وخميس المجنونة؛ يوم تجن الريح، وخميس القطاط؛ يوم بدء موسم تزاوج القطط، وخميس النبات؛ أوان تفتح زهور البراري، يوم تغسل فيه الوجوه بمنقوع النباتات العطرية، والذي هو أيضاً يوم اختبار الحظ برمي حجر في بئر القلعة، فإن سمع دويا كان الحظ وفيرا، وإن لم يسمع خاب الرجاء. وخميس المشايخ ختام الخميسيات الحمصية، يوم كان يخرج فيه شيوخ الطرق الدينية الإسلامية في مواكب يتقدم كل منها راية، مع جوقة منشدين يضربون على الدفوف والمزاهر، والطبلات والصنجات. يجوبون شوارع حمص ما بين باباعمرو والخالدية.
كل تلك الطقوس وغيرها من المباهج الحمصية التهمتها آلة الحرب، حين قرر أهل حمص اختبار حظهم برمي حجر في بئر النظام، وخرجوا بثورة تنادي بإسقاط الدكتاتورية، فعاجلتهم آلهة التدمير بقصف هستيري، جعل أيامهم كلها خميسيات أموات بلا ربيع ودون حلاوة.
في حمص التي كان تسمى قديما (أميسا) أي الارض المنبسطة باللغة الآرامية، نتحرك الآن كجثث داخل مشهد من الخراب العظيم، ومن حيث لا ندري كلما راودتنا ابتسامة عن أنفسنا اجهشنا بالبكاء.
ــــ