جوائز للأبطال - مقطع من رواية
1
سمعت أن الإنسان عادة يبلغ الثلاثين ليجد نفسه يعرف أخيرًا ما يريد، فانتظرت. ومع ذلك، تفاجأت حين أدركت أن اليوم عيد ميلادي، ولكن تصرفت سريعًا بما يليق باللحظة، وتزامنها مع اكتشافي لإفلاسي وفراغ جيبي إلا من مئة جنيه.
قلت ستكون جميلة الثلاثينات؛ لأني بعد ساعة كنت في ميكروباص متجهًا إلى القاهرة، وفي نيتي خطة، كنت على يقين أني سأنفذها بالكامل: فور وصولي للموقف في وسط البلد، سأركب أول تاكسي أراه، سأعطيه ما تبقى معي من أموال حين نصل إلى بيتي. سأنتظر حتى يغادر ثم أتسلق سور البيت كما فعلت من قبل، وأقفز منه إلى الحديقة ومنها سأفتح باب المطبخ الذي أعرف أني تركته مواربًا، ومنه إلى داخل البيت. هناك سأفتح اللاب توب، ولن أستسلم للغواية المتوقعة التي ستدعوني كي أفتح الفيس بوك، وأعرف ما فاتني طوال الشهر الماضي. بدلاً من ذلك سأبحث عن أي بطاقة ائتمانية في البيت وأحجز بها أقرب طائرة لأمريكا، ولن أعود إلى القاهرة أبدًا، وسأذكر نفسي بقراري هذا كل يوم.
ستكون جميلة الثلاثينات، ولا أتوقع أن تأتيني فيها أحلام دون رغبة أو سيطرة مني، فتصير رغمًا عني ما أريد. في يومي الأول، في الميكروباص ونحن نقترب من القاهرة، أخضعتها لأول اختبار ونجحت فيه، نمت فوجدتني أحلم بما أريد. الشيء الوحيد الذي كنت أشتاق له في القاهرة، كان طعم الزيت في صدور دجاج كنتاكي، أغمضت عيني، فوجدتني أمام المطعم وقلت هذا حلم، وعلى الرغم من رؤيتي لهدير واقفة بجواري، وهو ما كان يرجح أني أشاهد نفسي في كابوس، فإني لم أفزع، وارتحت لكون كل هذا سينتهي حين أصل إلى أمريكا غدًا، وبالتالي لن يُطلب مني تحقيق أي شيء سأشاهده، فدخلت المطعم مع هدير وطلبت ثلاثين قطعة من صدور الدجاج، لتبث رائحة الزيت المحروق السرور في قلبي. هدير لم تكن تأكل، رغم وعيي بأن دخول المطعم كان فكرتها، كما كنت واعيًا لأن ما آكلها بنهم حقيقة هي ذاكرتي، وكان هذا يفسر كيف كانت قطع الدجاج أكثر سخونة من المعتاد، ويفسر أيضًا كيف كانت تجري في حلقي كالمياه دون أن أحس بطعمها. أما ما لم أجد له تفسيرًا، فكان طعم الشمع الذي بدأ يحتل فمي مع القطعة العاشرة، خصوصًا وقد تزامن مع رؤيتي لهدير وهي تخُرج من حقيبتها ولاعة وسيجارة، فخفت أن أكون قد بلعت فتيلاً من الشمع كان مختبئًا بين الفراخ، ورغبت في تحذيرها من خطورة إشعال الولاعة، رغم شكي في أنها أدخلتنا كنتاكي كي تقترب مني وهي تشعل سيجارتها فيشتعل فمي، ولأني في الحلم أيضًا كنت أخشى مواجهتها، تحججت بتذكيرها بأن التدخين ممنوع في المكان، قبل خروج الدخان من فمها، وهي تعض على سيجارتها بشفتيها وتقول بملل:
. ما تخافش يا رامي. ده مش حب. دي حموضة!
صار مؤكدًا أن هذا كابوس. سيجارتها انتهت وأنا أمسك بقطعتي الأخيرة، وقبل أن أقذفها في فمي سحبتها هدير من يدي، وجرت بها وهي تطلق ضحكاتها المجنونة. جريت وراءها، وكان زبائن كنتاكي يصفقون، ولم أكن أعرف إلى أي منا يوجهون تشجيعهم. أحدهم أعاقها بكرسيه، وآخر وضع قدمه في طريقي، حتى أفلتت مني إلى الشارع واختفت. ربما كان هناك باب، ولكنني لم أرَه، لأني كنت ما زلت على اليقين نفسه الذي دخلت به الحلم، وهو استحالة خروجي إلى الشارع دون إنهاء أكلي. وقفت في طابور الشراء كي أطلب قطعة أخيرة بدلاً من المسروقة، ولكن قبل أن يصل دوري إلى البائع نبهتني سيدة ورائي أني لا أملك ما يكفي، فلم أجد أمامي إلا ابتزازها محاولاً إقناعها بأن تمنحني قطعة من طبقها، كهدية لي في عيد ميلادي الثلاثين، وعلى الرغم مما بدا عليها من تعاطف، وقفت تنبهني إلى انعدام خصوصية اللحظة، لأن كل من دخل كنتاكي اليوم أتى كي يحتفل.
فتحت عيني مع توقف الميكروباص، منزعجًا من أن يستمر عقلي الباطن في صراحته ويحلم بهدير تسرق مني ذاكرة عامي الأخير، وأزعجني أكثر حلمي بشيء لن يحله أي تقدم في العمر، سيظل عيد ميلادي يتزامن مع رأس السنة، وسيظل غير مهم حضوري فيه؛ لأنه في كل الأحوال احتفال. في الموقف كنت أول الركاب في النزول، وآخرهم في المغادرة؛ لأنني توقفت أشاهد سائقي التاكسي منتظرين لزبون ولا أناديهم، أُخرج الأموال من جيبي وأنظر إليها، أذكر نفسي بقراراتي الثلاثينية، ثم أجد قدمي كأنها استقلت عني تسير في اتجاه وسط البلد، تحديدًا في اتجاه أقرب فرع لكنتاكي. لم أقاوم، ليس فقط لأن الجوع كان يؤلم معدتي، ولكن أيضًا لأني أعرف كيف أفسدت كل شيء في كل مرة قاومت فيها رغبات قدمي. فقلت، سأستسلم لها ولكن مع حزم شديد في توضيح أني سأشتري فقط ما يُبقى معي أجرة التاكسي، ومع المشي كنت أذكّر نفسي بأن أتفحص كل ما حولي، بما يليق بشخص يودع مدينة.
المشكلة كانت عدم وجود شيء كي أودعه، فقد كانت الدنيا فجرًا، والشوارع خالية من أي إنسان. سمعت صوت ميكروفون الجامع ينادي للصلاة، فعرفت أن الأمر مسألة وقت، وأعجبتني فكرة قضاء الدقائق الباقية أسير وحدي، لا أرى سوى دوامات الرياح الباردة التي تطيح بالتراب والأكياس. أعجبني الأمر لدرجة أنني كنت على وشك القول إني أسير كملك متوج على وسط البلد، لولا عدم قدرتي على السير مرفوع الرأس بما يتناسب مع ما أشعر، لأني كنت خائفًا من الكلاب الضالة التي كنت متأكدًا من اختبائها تحت إحدى السيارات. كنت أتذكر هذه الكلاب، ولا أتذكر أي شيء آخر عن وسط البلد، لا ما كان يأتي بي إلى هنا، ولا ما حثني على المغادرة، ومع ذلك كنت خائفًا من أن يمسني الحنين، تحديدًا وأنا أصل إلى ميدان التحرير. رأيت بقايا احتفال رأس السنة؛ أكوابًا وأطباقًا بلاستيكية وأعقاب سجائر ومنصة مهجورة، ورأيت كنتاكي على ناصية شارع محمد محمود، ولم أدخله، ولكن ارتحت عندما وجدته مفتوحًا.
تذكرت نصيحة وحيدة كنت أكررها على نفسي طوال السنة: كنتاكي يعرف أكثر من الكل، لا أمان في محمد محمود إن كانت أبواب كنتاكي مغلقة. ولكن لا شيءَ مضمون، ولهذا دخلت الشارع ببطء، تذكرت كم كان مخيفًا حين يدب فيه النشاط، وجميل التجول فيه وهو نائم، شيء مثل اختلاس النظر إلى عجوز كان غاشمًا في صباه. عشر خطوات كأن الشارع قفز من نومته فجأة دون تثاؤب، نشيطًا كما تركته آخر مرة، في اليوم الذي كان كنتاكي فيه مغلقًا، وكانت هدير عند محل الحيوانات الأليفة الذي خشيت دائمًا المرور بجواره. كم خطوة قطعتها إليها يومها، وكم خطوة أحتاجها الآن كي أصل إلى المكان نفسه؟ الآن ويومها، إحدى وعشرون فقط. أحبطني الرقم. يبدو كل شيء أعظم وهو يحدث. لكن، من هذا الذي رأيته أمامي؟ ومن أين له هذه النظرة الغاضبة؟ ولماذا تحتل يده وحدها مساحة أكبر من وجوه زملائه المرسومين حوله على السور؟ مستحيل. حاولت إقناع نفسي بأنني أرى شبيهًا متطابقًا معي، ولكن بأكتاف أعرض وملابس مختلفة، ثم بدأت كلاب المحل تنبح، فتركته متجنبًا النظر إلى الوراء.
بعد خطوات وجدته أمامي من جديد، كأني أقف أمام مرآة تُركت في منتصف الشارع، فشعرت بجسدي وهو يخرج مني ويتبعثر أمامي في كل مكان، ويُقذف في كل اتجاه. بقيت معي قدماي، فوقعت بهما على الأرض، ثم نهضت لأقترب من هذا الغريب. أرى نفسي معلقًا على جدار أصفر، مكتوبًا من تحتي „رامي فين؟.
لملمت نفسي وصرت أجري من شبيهي إلى وسط البلد، متخيلاً أني أسبقه، ولكن كلما كنت أهرب منه إلى شارع جديد، كان يتنقل على الجدران بسهولة ويفاجئني، فأصبح من العبث التفكير في الهرب. استجمعت شجاعتي لأقترب منه. بدا أصغر مني سنًّا، متى كان على وجهي كل هذا الغضب؟ كنت وحدي، معه، بلا أي شخص ينقذني إن مد يديه من الجدار ليبتلعني، ولكن مع كل خطوة كانت تتكشف لي وداعته ونضارة وجهه، هو بالتأكيد أجمل مني. لمسته فلم يعد مخيفًا، بل وجدت في ملمسه على الحائط ألفة وسكينة، كأنها تدعوني لكي أظل هنا لأعتني به. جلست بجواره حتى أقابل شخصًا ويقول لي إني مجنون، كابتًا رغبتي في التدخين مراعاةً لمشاعر صديقي المُعلق، وذلك حتى عبر شاب يحمل حقيبة ظهر سوداء مُلطخة ببقع دهان أبيض، بان من مشيته أنه يقظ يبدأ يومه. ألقيت عليه التحية فردّها دون أن يتوقف، وعلى وجهه ابتسامة عادية، كأن بها صمغًا يُلصق ظهري بالحائط.