Menu
Suche
Weiter Schreiben ist ein Projekt
von WIR MACHEN DAS

> Einfache Sprache
Logo Weiter Schreiben
Menu
Text-2

عدالةٌ لا تُحتمل خفّتها


١

أزعم بالفعل أني في هذه المرة كنت أفكّر في قطع علاقتي بهيلينا، هذه المرّة ليست كسابقتها التي طبخت لي الحُمص في عيد ميلادي رغم أني قلت لها مئة مرة أني مريض بالقولون، وأن معدتي ليست بالضرورة تحب ما يحبه أبناء بلدي. ربما تقترب هذه المرة في جديتها من اللحظة التي صارحتني فيها أنها تريد الإنجاب مني، ناورت مُدعيًا أنني لن أنجب طفلًا يتعذب في هذا العالم، وقلت راميًا إلى أبعد من الخيال:

                                              . ننجب حين تتحقق العدالة!

ثم أكملت ممارسة الجنس معها بعد أن تحولت من القلق إلى الإعجاب بها وبقدرتها البيضاء على التفاؤل وهي تقول جاذبة جسمي إليها:

                                              . ستتحقق قريبًا!

ولكن أن أجد رسالة منها تلومني لأنني متأخر على مظاهرة الحالمين بالعدالة قائلة: „لا تأتِ.. لقد تحققت العدالة بالفعل!“، فهذا شيء متجاوز لأي حدود، ويعني أن هيلينا قد بدأت تتناسى مواقعنا، أنا من المظلومين، وهي حليفة والحلفاء لا يملكون حق اللوم.

هنا توقفت عن السير في اتجاه المظاهرة. ولكن الشارع بدأ فجأة في الحركة مع توقفي، حركة سعيدة باسمة لجموع تمضي في عكس اتجاه المظاهرة. لا أعرف لماذا استفزتني الوجوه السعيدة الآن فحسب، رغم أني كنت أمنع هيلينا أثناء السير معي من الصراخ في الوجوه المبتسمة من حولنا. منذ عرفتها كانت تود الصراخ في الجميع:

                                            . كيف تضحكون في وجود كل هذا الظلم؟

أضحك، فتهدأ هيلينا كأن ضحكتي وحدها تجعل لكل الآخرين الحق في الضحك. أي شيء أجمل من هذا؟ واصلت السير في اتجاه المظاهرة، أو هيلينا، ببطء ولكن بنية الوصول.

٢

أندهش من الكتَّاب الذين يصلون في مواعيدهم، حتى ولو كانوا على موعد مع تحقق العدالة. على الكاتب أن يأتي متأخرًا لأنه سيبقى على الأغلب بعد انصراف الجميع. صحيح أن الكتَّاب يصنعون الدراما، يحشون العالم في قصص، ولكنهم في نفس الوقت يقاومون انتباهنا الدرامي. كم طفل يموت من الجوع يوميًا؟ بالتأكيد أكثر بمراحل من الأطفال الذين يُقتلون في الحروب. لماذا لا ننتفض للطفل الذي يموت من الجوع؟ ببساطة لأننا نستقبله كحدث يومي، وبالتالي عادي، غير درامي، لا نستطيع استقباله كقصة، ولا نستطيع فيه توجيه أصابع الاتهام لأحد معين ما عدا النظام العالمي الذي لا نستطيع أن نُمسك به في شكل صورة أو فيديو أو رواية.

في النهاية كلنا أسرى انتباهنا الدرامي، تقوم حرب في مكان ما، ننتفض من أجلها وأثناء انتفاضتنا هذه نتبناها كأنها قضيتنا الأساسية، غير واعين بأننا سنترك هذه الحرب بعد أسابيع أو أشهر أيًا كانت مستمرة أو منتهية، لا لشيء غير لأن مصيبة أخرى في مكان آخر تحدث؛ زلزال في مكان آخر يحتاج تركيزنا، ثورة في بلد ما سندعمها وهي كالعادة ستُهزم، ثم سنعيد الدورة. على الأغلب هذه الحرب التي تركناها ستعود لتستحوذ على تركيزنا من جديد في لحظة تالية حين يحدث فيها شيء يحفِّز انتباهنا الدرامي.

ولكن على الكتَّاب الذين أتوا متأخرًا أن يبقوا، يحرسون اللحظات الساكنة غير الدرامية، يسردون القصص التي لم تتخذ شكل قصص تستدعي الانتباه بعد، ربما هذا هو الشيء الوحيد الذي تستطيع الكتابة صنعه، أن تحافظ على اتصال السكون بالدراما، أن تحرس الخط غير السردي بين التاريخ والمستقبل.

٣

 بالطبع سخرت مني حبيبتي السابقة ليلى حين قلت لها هذا الكلام، وظلت لأيام تذكرني:

 . على الكاتب أن يتأخر في إلقاء القمامة، على الكاتب أن يتأخر في غسيل الأطباق، على الكاتب أن يتأخر في إرسال الإيميل لمحامية اللجوء الخاصة بنا. على الكاتب أن يتأخر في تعلم الألمانية ليحصل على وظيفة!

ولكن هذا ليس موضوعنا، فقد تركت ليلى، أو تركتني. سافرنا معًا من بلادنا، ولكن سرعان ما اتضح لي أن مشروعها للتحرر في البلد الجديد يمر من خلال محاربة كل ما هو قديم وخصوصًا أنا، واتضح لها أني مهما انتقلت سأريد الاحتفاظ بامتيازاتي ككاتبٍ ذكرٍ تدور الحياة حول إلهامه. موضوعنا هو هيلينا، قابلتها قبل بضعة أشهر، تحديدًا بعد أيام من معاودة ظهور الظلم بكثافة في شكل صور وفيديوهات وشهادات، ما استدعى بالطبع انتباه الناس كأن الظلم قد بدأ للتو.

دُعيت أنا وليلى إلى اجتماع مجموعة الحالمين بالعدالة، الحقيقة دُعينا الى أكثر من اجتماع ولكننا كنا متسمرين أمام القصص على الشاشات. يومًا بعد يوم أدركنا صعوبة أن ينعزل اثنان من المظاليم في لحظة كثيفة مثل هذه، فأين يذهب الغضب؟ لا بد من واحد مظلوم وواحد حليف لأغراض الاستماع وتقبل السخافة وربما طبخ الحمص للآخر المكتئب. المهم، لم نتحمل سخافتنا المشتركة فذهبنا إلى الاجتماع، وانفصلنا في الطريق، ولم أجد مكانًا آخر أذهب إليه فذهبت وحدي لاجتماع الحالمين بالعدالة، وجلست صامتًا بين المظلومين وحلفاؤهم. سرحانًا في قصص من الماضي، غير قصص المأساة الجديدة التي كلما تكلم أحد من الحاضرين قال بالعربية أو بالانجليزية أو بالألمانية أن علينا فقط حشو آذان وعيون الناس بالقصص في كل مكان. انتبهت فقط أن الاجتماع انتهى حين وضعت هيلينا يدها على كتفي، وقبل أن تقدم نفسها سألتني عن حالي فظننت أنها لاحظت صمتي طيلة الاجتماع، وقلت مُدافعًا عن نفسي كأني متهم:

                                 . ليس عندي شيء أقوله!

ولكنها لم تكن تعني الكلام، كان بيدها طبق من الحمص فهمت فيما بعد أنها طبخته من أجل الاجتماع. لا أعرف إن كنت رأيت أنها جميلة، رأيت ربما أنها تراني، فتراجعت عن قول أن الحمص يؤلم معدتي وأكلت من يدها على الفور، ثم تألمت وأنا مستمتع على سريرها.

٤

  . حمص مجاني للجميع!

أنقذتني لافتة المحل فور وصولي نويكلن حيث المظاهرة. كنت ما زلت أسير بتباطؤ باحثًا عن قصة أحكيها لهيلينا تبرر تأخري على مظاهرة تحقيق العدالة. أبحث في إكس عن خبر، قصف، قتل، اختفاء، اكتشاف جثث، أي شيء مما يحدث يوميًا في بلاد المظاليم لكي أجعله سببًا لتأخري، فلا تجرؤ هي على الاقتراب من لومي، ولكني لا أجد شيئًا مُقنعًا، فأرفع رأسي تاركًا الهاتف، باحثًا في الشارع عن أي شيء يمكنني أن أقول إنه ذكّرني بشيء في الماضي، لكي أقول لها الكلمة التي تردعها تمامًا „أن ما رأيته كان triggering“. أخيرًا، وجدت لافتة المحل، ليس هناك أقوى من مبرر أني كنت آكل حمّصًا، بطعم الأجداد. لكن في الطابور وصلتني رسالة هيلينا، „لا تأت. لقد تحققت العدالة بالفعل!“ فأرعبتني. هل تعني هيلينا أنها لن تنتظر أكثر من ذلك لإنجاب طفلنا الذي رهنَّا وجوده بتحقيق العدالة؟ لم أستطِع التفكير كثيرًا، فقد وجدت كل من حولي يتحدثون عن أن العدالة قد تحققت، ورأيت المظاهرة تتفرق قبل أن تبدأ، والناس تسير في كل اتجاه في سعادة عجيبة، وتردد نفس الشيء „لقد تحققت العدالة“ من دون أن يذكر أحد مصدر المعلومة. لا أعرف إن كانت هيلينا قد لمحتني أمام المحل مثلما لمحتها، ولكني في كل الأحوال هربت من هذه العدالة المفاجئة.

٥

الشهران الذي تأخرت فيهما في الرد على رسالة هيلينا قضيتهما في بيت كاتب زميل كان من القلة التي تشاركني التشكيك في أن العدالة قد تحققت. ننزل كل يوم لكي نسأل الناس متى وكيف، ولا يجيبنا أحد في نشوة الاحتفالات التي غمرت الشوارع. لم يكن هناك أي صورة، أو فيديو، أو دليل على أي شيء. الوحيدون الذين كانوا ينكرون تحقق العدالة هم الأطباء النفسيين الذين كانوا يسيرون في الشارع يحاولون دفع الناس بالقوة الى عياداتهم، وربما رأيت أكثر من فيديو لصناع محتوى التنمية البشرية يصرخون في الناس، ولكن كان من السهل معرفة ضعف تأثيرهم من عدد المشاهدات. وبالطبع، من إيلون ماسك بعد هبوط أسهم إكس الحاد.

غير ذلك، فالسعادة غير المفهومة ظلت طاغية خصوصًا مع شواهد جديدة من تحسن الجو المفاجئ وتسارع سياسات جديدة لتخفيض سن المعاش إلى الأربعين ومضاعفة الأجور. هل كل هذه الملاحم كانت من أجل الوصول لهذه التفاهة؟ بقي معدل الوفيات كما هو، فما تم إنقاذه من الأرواح بسبب التأمين الصحي المجاني العالمي، فُقدت أرواح مساوية له بسبب انتشار رياضات القفز من فوق الجبال وعودة رياضة مصارعة الثيران، ومرور تشريع حق الانتحار السعيد في كل بلاد العالم. ولكن لم ينتبه أحد، فالناس كانت تأكل وتشرب وتمارس الجنس كأنهم سيستطيعون العيش هكذا إلى الأبد.

وحدهم مجموعات الحالمين بالحرية ، بمظلوميها وحلفائها، الذين كنت أقابل بعضهم بالمصادفة في الشوارع، متجهمين، يسيرون بدقة المنقبين عن المعادن، وكلما رأيت أحدهم تتبعني ظنًا منه أني أسير أيضًا بحثًا عن قصة للظلم، ولكنهم كانوا يتوقفون عن متابعتي بعد قليل، لأني كنت أسير كيلومترات طويلة يوميًا محتفظًا بحياتي بلا تغيير، في استعداد دائم لأن يحدث شيء فيها يجعل منها حياة.

قابلت هيلينا في واحدة من هذه المسيرات الطويلة، ولم نذكر شيئًا عن ابننا الذي يجب أن نلده، وسلَّمنا على بعضنا بغير حماس، وانصرف كل منا في طريقه، وبعد أسبوع تقابلنا من جديد، وتقدمت في اتجاهي وفي عينيها شرارة كأنها قد استعرتها للتو من عيون „ليلى“، وتعاركنا بمتعة، عراك طويل أعتقد أن كلينا شعر فيه باستمتاع لم يشعر به منذ تحقق هذه العدالة التي يزعم تحققها كل السائرين بسعادة من حولنا.

أحمد عوني

Zurück

Datenschutzerklärung

WordPress Cookie Hinweis von Real Cookie Banner