الدِّيك
ثلاثة أيام وأهل القرية يتحدثون، ينخلون الكلمات ويخبزونها، حتى كره الناس مصادفة تلك المرأة في الشارع؛ فمنذ حطَّتَ رِجلها في حقل الباذنجان، والمرارة أكلته. بقعة دم كبيرة على جلبابها تكفلت بقطع عيشها وعيش صاحب المحصول. ولما حاولت ابنتها الكبرى أن تعمل بدلًا منها، طردها الناس من الأرض خشية أن يكون النحس طالها، فأمها مدنسة في شرع القرية، ومحرم عليها جمع الباذنجان.
الزوج ما زال في المدينة، يغيب أربعين يومًا وليلة، ويترك أمه في رقبة نعمة وبناتها. الجدة لا تعمل أبدًا حساب الغد، بالأمس جلست أمام موقدها، أمسكت مفراكها الخشبي، وفي إناء كبير فركت الخبيزة، وبجانب الموقد التفت نعمة ببناتها عندما شممن رائحة الطشة، ولم يتوقفن عن الأكل حتى فرغت مشنة الخبز.
مع صياح الديك المقدس تخرج نعمة من عشها، تسير مع ابنتها إلى القرية، تحذوان الترعة، تمسحان الحقول المتناثرة على ضفتيها، تستعطف الأم رئيس الأنفار، لكنه يابس قلبه. لا يسمح لهما بالعمل، تسيران في أزقة القرية وحواكيرها مع أطفال يحملون أحلامهم وخيباتهم في لوح خشبي، يهرولون نحو الكتاب مع البهائم، والبهائم تعرف طريقها إلى الحقل، وتتغوط في الشارع. تنظر الأم لابنتها، فتمضي البنت إلى أحد البيوت وتشحذ طبقًا بلاستيكيًّا، بينما تتبع الأم روث البهائم الطازج، تحمله بكفيها.. تدوره، تصنع منه قرصًا ممتزجًا بحبات التراب والقش. لتأتي ابنتها بعدها، تلتقط غلافة متسخة، تسد أنفها، وتهاود لحم بطنها، وتجمعه في الطبق البلاستيكي. لم يمض وقت طويل حتى امتلأ الطبق، لتحمله عنها أمها وتعودا إلى البيت.
وراء البيت، تعمل الأم في مزج روث البهائم بالقش والتبن، وتنشرهم تحت الشمس، ستبيعهم في القرية؛ القرص الواحد يساعد على اشتعال الفرن البلدي أكثر من حزمة حطب، وتقول الجدة إن الخبز المحمي بالروث، طعمه أفضل من غيره.
في اليوم التالي حملت الأم مشنة مملوءة بأقراص الجلة، لفّت على بيوت القرية، ولم يستقبلها سوى بيت وحيد. طلت العجوز من شباكها وقالت „اصعدي يا نعمة“، وكانت بركة الديك المقدس تنير سطح البيت وتغسله من الشياطين والغربان. صعدت نعمة وابنتها إلى الدور الثاني، ووجدتا العجوز تنتظرهما، وأمام الحجرة في الفَسحة ثلاثة ديوك تقرقر بشدة، فزغدت نعمة ابنتها التي ترتدي هدمة حمراء، واللون الأحمر يهيج الديوك ويغيظهم. دخلت الابنة غرفة العجوز وأحبّت يدها، جلست على أريكة مبطنة بالقطن، نُجدت حديثًا. صعدت نعمة فوق السطح، ولأول مرة ترى الديك المقدس يفرش ريشه فيمر الهواء من خلاله، وبِعُرفٍ دموي يزين رأسه ومنخاره. لم يقرقر الديك طويلًا عندما رأى نعمة، ظل واقفًا على حافة السور، فوق أقراص الجلة المتراصة على بعضها، وبدأت نعمة في رص أقراصها الخضراء في الجانب الآخر من السور. كانت تنظر إلى الديك المقدس بين الحين والآخر بتبجيل، فهو القادر على طرد الشياطين، ومواجهة ملاك الموت الساكن في الجبانة المقابلة لبيت العجوز، وبقدرته، يخيف الغربان السوداء، يقرقر لها، فتهرع كأن أطفال القرية قد أصابوها بكلمة أعور، والغربان عوراء، تتخبط في الشجرة العملاقة لما تسمع تلك الكلمة، ثم تهرب بعيدًا، وتأخذ الشؤم معها. يسمع أبناء القرية قرقرة الديك كل صباح، كأنها تنزل عليهم من السماء السابعة، فيخرجون من أعشاشهم وديارهم، ويذهب كل مريد إلى مراده، كل ذلك يحدث بقدرة هذا الديك.
نزلت نعمة إلى الطابق الثاني. طلبت منها العجوز أن تترك ابنتها معها لتناولها الطعام والدواء. وافقت نعمة بعد النظر في وجه ابنتها، أخبرت العجوز إنها ستعود بمشنة أخرى لتكمل رص السور. عادت نعمة لحماتها وناولتها ملاليم لتطعم البنات. بلت ريقها بعدما شقته بأعواد الخس الخضراء ولقمة عيش ناشفة أحضرتها الجدة من الجيران، وبدأ الشيطان يلعب في رأسها. نظرت إلى بناتها الجائعات، وحماتها التي سرعان ما ذهب إلى القرية ورجعت بحزمة من الملوخية وحزمة من الجرجير الطازج. لماذا تمكث هنا وتلزّق أقراص الجلة وبناتها جائعات؟ تعرف أنهن لا يحببن الملوخية، لكنهن سيحببن طعم الديك الرومي، سيكون كبيرًا بما يكفي لإشباعهن أسبوعًا. ستذهب إلى بيت العجوز، وبمساعدة ابنتها ستقوم بإمساك الديك، وتذبحه فوق السطوح، ستفرش المشنة بطبق بلاستيكي، وسيملأ الديك الطبق، كما سيملأ بطون بناتها.
رصت نعمة بعض الأقراص في المشنة. حملت الطبق البلاستيكي في يدها، وذهبت إلى بيت العجوز. خافت الابنة في بادئ الأمر عندما أخبرتها أمها بما في رأسها، „سنأكل الديك المقدس يا أمي! ستلبسنا اللعنة والشياطين، وربما كان لحمه مسمومًا“. طمأنت الأم ابنتها وأخبرتها أن الديك لن يخبر أحدًا بأمرهما؛ إذا ما صنعا من لسانه شوربة لذيذة. وافقتها البنت. صعدت الأم ممسكة بسكين من سكاكين العجوز، وجزت رقبة الديك المقدس، وعادت إلى دارها برفقة ابنتها. في الليل، أضاءت لمبة الجاز المائدة، الجدة تقسّم الديك عليهن، ولا تكتفي بقطعة لكل واحدة. لم تقترب إحداهن من طبق الملوخية المركون، أو من الخبز الناشف في مشنة الخبز. البطون امتلأت عن آخرها، وحدها الابنة أحست بالذنب، ليس من أجل الديك أو العجوز التي عطفت عليها، لكن بسبب الغربان السوداء التي حطت على الشجرة العملاقة.
في الصباح خرجت نعمة وابنتها ليتتبعا روث البهائم، لكنهما لم يصادفا صريخ ابن يومين، لم يخرج أحد من داره. الغربان ملأت الشجرة العملاقة وكستها بالسواد. الديك المقدس اختفى، لم يسمع أحد قرقرته منذ الأمس. لم يعد واقفًا على السور بعرفه الأحمر، وخطواته الواثقة، ولن يجد ملاك الموت من يواجهه هذا الصباح. توقفت الأعمال في القرية، جفت الأزيار من الماء، جاع الأطفال والكبار. استطاع ملاك الموت أن يدخل بيوت القرية، تعالى النحيب والتعديد، والقرية صغيرة، وملاك الموت يتعسس كل ليلة، ويحجب نور الله عنهم، يمشي وسط الطرقات برجل مسلوخة، متفرعنًا، يمكن للحيّ أن يسمع دبيبه على عتبة داره، ويدعو الله ألا يتبول أمامها.
نعمة تسكن في الجهة الأخرى من القرية، يفصلها عنهم ترعة جفت، أو شربها ملاك الموت، ونخلة بإصبعه الأزرق خوّخَها. كل ليلة يقترب من بيتها أكثر، فتحوّط على بناتها أكثر. في الليل، تصيب الحمى ابنتها التي شهدت جريمتها، فترى غرابًا أسود يقترب، تحذر أمها „فوق رأسك“، فينطفئ المصباح، ويجف الجاز من البيت. يزيد الخوف داخلهما، ويزيد شعور نعمة بالخطيئة، أغواها الشيطان ودنسها ببقعة دم، قطعت عيشها وأيبست الأخضر منها.
في الليلة الثانية من ذبحها للديك، عاد العم عليٌّ، زوج العجوز، بعدما انتهى من عمله في المدينة. زار أولاده المقيمين هناك، فلم يستقبل حضوره أحد. زرقاء كانت عودته حين مشى بعكازه من محطة القطار البعيدة إلى القرية، ينقر الأرض ويسب أهلها المجانين. يجرجر حقيبة سفره، فتصرخ الأرض وتزعق. ومن شدة نقمه على حمار سيد الحلاق، لم يستطع أن يحتمل حصرته، وفكها على عتبته. والوقت لم يكن متأخرًا حينما نظر في الساعة المعلقة ببدلته، وانتظر أذان العشاء، لكنه – بدلًا من ذلك- سمع آذان ضفدع مؤمن وكلابًا من المصلين يؤمنون. لما وصل إلى بيته، استقبلته العجوز بطبق من الماء الساخن، دلكت رجليه بالملح والليمون، قصت عليه أخبار القرية، والشوطة التي أصابتهم بعد فعلة نعمة وابنتها. العجوز كانت تعلم، لكنها انتظرت وصول زوجها. وبالفعل، بات يتجول في القرية، يفكر في حل لهذه المصيبة، كان يعلم مكانة الديك عند أهل القرية؛ العرف أحمر، إنجليزي، والريش صنعة ربانية، استلهمها الخياطون في حياكة ملابس العذارى والعوانس، كل القرية تتبع وحيّ الديك.
وقف أمام الشجرة العملاقة ورأى الغربان تسكنها. خطرت في باله فكرة… سيعيد ترقيع الجريمة. على الفور، رجع إلى بيته، ارتدى طاقية حمراء، دخل بصحبة العجوز إلى غرفة الديوك الثلاثة. اصطفى أكبرهم عرفًا، وأعلاهم صوتًا. المشكلة الوحيدة أن عُرفه لم يكن إنجليزيًّا خالصًا، لكن العجوز لحّسته بالحمرة، وتناوبت على تدريبه خمس ليال كاملة مع زوجها، على حركات الديك المقدس، ووقفته الواثقة على السور. أصبح يأكل في طبقه، وينام في عشه، حتى ألفها، وصدقها. في صباح اليوم الثامن، صعد العم عليٌّ وزوجته العجوز إلى سطحهما، أخرجا الديك البديل من عشه. همس في أذنه، ثم وضعه على السور. نظر إليهما الديك كطفل في أول أيام روضته، ثم نظر إلى شجرة الغربان.. وقرقر.. تورد وجه العجوز، خطا الديك على السور واثقًا، وقرقر كالوحي، فتخبطت الغربان، وهرب ملاك الموت. فتحت القرية أبوابها وأعشاشها، حمل الأطفال ألواحهم من جديد، وهرولوا نحو الكتاب مع ضوء النهار.