Menu
Suche
Weiter Schreiben ist ein Projekt
von WIR MACHEN DAS

> Einfache Sprache
Logo Weiter Schreiben
Menu
Text-2

فتاة الدبابيس

ديمة البيطار قلعجي

(١)

يختصر اسم متحف بروكه Brücke علاقتي بألمانيا.

حين سمعت بهذا المتحف للمرة الأولى، اعتقدتُ أنّه متحفٌ للجسور، أو ربما متحفٌ قريبٌ من جسر.
لم أكن قد سمعتُ باسم هذه المجموعة الفنية من قبل، أو ربما سمعت ونسيت، حين أرسلت لي زميلتي رابط الموقع الإلكتروني للمتحف للإطلاع عليه ولنقرر إن كان مناسبًا للمشروع الذي نعمل عليه. كانت تهجئة الاسم مختلفة، لأنه لا يمكن إدراج نقطتين فوق حرف U في عنوان الرابط. اعتقدت أنني مخطئة وأنه شيء آخر غير الجسر، لكن حين تصفحتُ الموقع تبيّن لي أنّه „جسر“ فعلًا، لكنّه اسم مجموعة فنية ولا علاقة له بالجسور.

لم أفهم حتى مرحلة متقدمة من البحث أنّ المجموعة قد حُلّت قبل بداية الحرب العالمية الأولى، مع ذلك ما زالوا يُعرفون كمجموعة، وأن فنانيها، وبسبب الفن الذي يقدمونه وليس بسبب مواقفهم السياسيّة أو الإنسانية، تم إقصاؤهم أو إلغاؤهم من قبل النازيين، وكلمة الإلغاء هذه هي كلمة بتنا نستخدمها كثيرًا في الآونة الأخيرة في برلين.
وهانا بيكر فون راث (Hanna Bekker vom Rath) دعمت أفراد مجموعة بروكه، دون أن تدعم المجموعة نفسها.
أستطيع أن أختصر علاقتي بألمانيا بهذا الشكل: لست مخطئة تمامًا، ولكنني لست محقة، هناك دائمًا ما يجب تصحيحه، أحاذي الصواب ولا أصله، ويجافيني بسوء فهم يجب تقويمه.

***

(٢)

عليّ أن أعترف، أن الكتابة عن السيدة التي تقف على الطاولة لم تكن سهلة تمامًا، فأنا لم أرغب فعلًا بجرّ امرأة سورية من ذلك الزمن وأن أطلب منها أن تقف على الطاولة، لا إن كانت تناضل ضد الاستعمار الفرنسي بين الحربين العالميتين، ولا إن عاشت بعد ذلك في سنوات الاستقلال. لم أرغب أيضًا أن أكتب نصًا نسويًا عن دور النساء وتهميش النساء وقوة النساء، ولا أن أكتب نصًا عن المتواطئين ولا عن الانتهازيين ولا عن الصامتين ولا عن الرماديين.
أدهشني الفرق بين كيفية رؤية الآخرين لهانا بيكر فون راث وتصويرها في لوحاتهم، وكيفية رؤيتها لنفسها في لوحاتها التي رسمتها.
مدهش هو التباين، وكيف يُسقط الاخرون نظراتهم علينا، فتحوّرنا.
تذكرني هانا بيكر فون راث بجدّتي، وقفتها الفخورة، ساقاها المتصالبتان في جلستها المُعتدّة، نظرتها الحادة بطرف عينها. ورثت أمي عنها نظرتها تلك، وورثتها أنا عنهما.

هو؛ كان يحب نظرتي الحادّة هذه. لم يكن ما حدث بيننا شيئًا رومنسيًا تمامًا، وإنّما محاولة (فاشلة) للتخفيف من حدّة الشتاء الماضي. وكان مثلي، ينوس بين ثلاث لغات أو أربع، لذلك فإنّ محاولة بناء محادثة آخر المساء بعد أسبوع عمل طويل لم تكن فعالة تمامًا، بينما تطوف كلمات وحروف وقواعد لغويّة لخمس لغات في رأسينا.
كان يسخر منا، نحن العاملين في مجال الثقافة، يسخر منا ومن جسورنا التي نحاول بناءها دومًا „لمَ تستخدمون هذا التعبير كثيرًا؟ بناء الجسور بين الثقافات؟“ يسأل المهندس العظيم بصوت ساخر، وكأنّني الناطقة باسم الجسور الثقافية في البلاد.
„أتعلمين؟ لا يمكن لمن يفعل ذلك أن يمتلك فكرة أو تصورًا حقيقيًا عن كيفية بناء جسر“. تأخذه الحماسة: „لتبني جسرًا عليك أن تفكري بالضفتين اللتين ستصلينهما، المسافة والأرضية وثم تصميم الجسر، عليكِ أن تفكري بعوامل الطبيعة والمواد المستخدمة والضغط والاهتزاز والارتداد والوزن والمقاومة والجمالية، بناء الجسر هو شيء في غاية الدقة والجمال والحساسيّة، الوصل والفصل معًا.“

أنصتُ إليه بمزيج من الغيظ والحماسة، وأنا أفكر بواقعية أن أهجر الأدب وأدرس الهندسة، علّي أنجح ببناء جسور ثقافية أكثر ثباتًا وفعاليّة، بدلًا عن الهواء الذي أطفو فيه منذ عشر سنوات.

„يومًا ما إن صممتُ وبنيت جسرًا سأتوقف عن العمل. لا أريد أن أفعل شيئًا بعد ذلك، سأكون قد وصلت إلى قمة إنتاجي المهني. بناء الجسر كبناء الشِعر، أجمل ما يمكن أن يحدث.“ ينهي حديثه.
المسكين، لم يكن شاعريًا بما يكفي ليبني جسرّا، لا بين ضفتين ولا بين شخصين، وتحوّل في النهاية إلى مقطع في نص يُلقى في متحف.
لكلّ منا مصائره في حكايات الآخرين، هو الرجل الذي حلم أن يبني جسرًا فصار نصف حكاية. رجلٌ جسرٌ دون ضفاف.
وأنا…فتاة الدبابيس.

***

(٣)

عندما كنت طفلة كانت جدتي تجعلني أقف على طاولة خشبية في منتصف الصالون، أدور حول نفسي على مهل، وهي تغرس الدبابيس بحرص وهدوء في أطراف الفستان الذي تقوم بخياطته لي. ترفع الخصر، تهندم ثنيات الأكتاف، ترفع الياقة. تُثني جدّتي على هدوئي، ثم تنهرني عندما أقفز بحماقة إلى الأرض بفستان مغروزٍ بالدبابيس.
رفعتني جدّتي فوق الطاولة أول مرة عندما بلغتُ بالكاد سنة واحدة، ورغم أنها غادرت عالمنا منذ سنتين وفقدنا البيت منذ أربع وغادرت أنا البلاد منذ عشرة، إلا أنّها ما تزال تحملني وتضعني فوق الطاولة فأرى العالم ممتدًا ومفتوحًا أمامي.
أقف على الطاولة الخشبية في الطابق الأخير من البناء، فأرى مجنّدًا يقف على سور البناء المقابل وشارعٌ يفصل بيننا. „لا تخليهن ينتبهوا أنك عم تتطلعي عليهن“. تكمل جدتي تثبيت الدبابيس على أطراف الثوب. أستطيع أن أرى من حيث أقف باحة المحكمة العسكريّة البعيدة، أي أنه كان باستطاعتي أن أرصد السيارات التي كانت تنقل المعتقلين والمجندين والضباط والقضاة العسكريين.

وأنا، كان ينتابني الفضول حين كنت طفلة، والفضول والغضب حين كبرت. أربعون عامًا وأنا عينٌ تحدّق وتدور فوق الطاولة، والسلطة تواجهني بفوّهة بندقية من وراء سور، بقنبلة تسقط من طائرة، بسياسات الحدود، بقوانين إقصائية، بتحيّز إعلامي، يتدليس تاريخي، يقصور التمثيل السياسي، بالعنصرية، يالتمييز… إلخ.

***
(٤)

لم تكتب جدّتي أيّ مذكرات. لا أستطيع أن أقتبس من مذكراتها. جُلّ ما أعرفه هو ما حُكي عنها، وليس ما قالته هي. في الحرب العالمية الثانية ربّما أكلت خبزًا يابسًا، فقد سحب الفرنسيّون كلّ خير البلاد، وجلبوا جنودًا غرباء، فيما أخذوا شباب بلادنا إلى أراض غريبة.

أعرف أن جدّتي كانت مُعتدّة بنفسها وبعائلتها، وأنّها كانت تكره التصوير. كانت عبقرية في الرياضيات، تستطيع أن تقوم بأية عملية حسابية في عقلها بسرعة ودقّة، ولم يكن من الممكن أن تكمل تعليمها في زمن الحرب، فأقسمت أن تحمل بناتها الخمسة شهادات جامعية عالية بأي ثمن، وقد برّت بذاك العهد.
حين كانت تضحك، كانت وجنتاها تحمران وتنساب الدموع غزيرة من عينيها.

***

(٥)

يقول وديع سعادة: „ليس عندي ما أقوله. فقط أريد أن أتكلم، أن أصنع جسراً من الأصوات يوصلني بنفسي. ضفتان متباعدتان أحاول وصلهما بصوت. الكلمات أصوات. أصوات لا غير. هكذا هي الآن، هكذا كانت دائمًا. أصوات لا نوجهها إلى أحد. نحن لا نكلم الآخرين. نكلم أنفسنا فقط.“

* [1] باللغة الألمانية كلمة Brücke تعني الجسر.

Zurück

Datenschutzerklärung

WordPress Cookie Hinweis von Real Cookie Banner